عِزٌّ الحق و ذُلّ الباطل
د . أحمد عبد المجيد مكي
الحق هو الصحيح الثابت الذي لا يسع عاقل إنكاره بل يلزمه إثباته والاعتراف به، ومن صفاته أنه واضح لمن أراد أن يسلكه، مَنْ تَعَدَّاه ظلم ومن قصر عنه ندم، ومَنْ صارعه صرعه . وأتباعه هم خيار الخلق، عقولهم رزينة ، وأخلاقهم فاضلة، إذا عَرَفُوا الحقّ انقادوا له، وإذا رأوا الباطل أنكروه وتزحزحوا عنه.
أمَّا الباطل فهو ما لا ثبات له ، وما لا يستحق البقاء بل يستوجب الترك والقلع والإزالة. وأتباعه من أسافل الناس وأراذلهم وسَقَطهم، يُعْرَفُون بتكبرهم عن الحق، وجهلهم بالحقائق، بل إِنْ شئت فقل سُلِبُوا نعمة العقل، فالجهل لهم إماما، والسّفهاء لهم قادة وأعلاما. فَمَا إِنْ يتكلم أحدهم حتى يُعْرَفُ فساد ما عنده، يصور الباطل في صورة الحقّ، ويستر العيوب بزخرف القول، يتلون كالحرباء، فلايثبت على مبدأ ، ولكن إذا شاء طفا، وإذا شاء رسب،. فيصدق فيه المثل القائل : يُطَيِّنُ عَيْنَ الشَّمْسِ . أي ينكر الحقَّ الجلىَّ الواضحَ بحجج سخيفة، وإذا كان الساكت عن الحقّ شيطان أخرس ، فالمتكلّم بالباطل شيطان ناطق.
وقد حظيت المقارنة بين الحق والباطل باهتمام الحكماء والأدباء فقالوا :
الحقُّ أَبْلَجُ والباطل لَجْلَجٌ، والمعنى: الحق واضح مُشْرِق والباطل غامض .
ومن أقوالهم الجامعة : دولة الباطل ساعة ودولة الحقّ إلى قيام السَّاعة، للباطل جولة ثم يضمحل وللحق دولة لا تنخفض ولا تذل ، العاقل لا يبطل حقاً ولا يحق باطلاً ، الرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل ، حقّ يضرُّ خيرٌ من باطل يسرُّ .
والتدافع بين الحق والباطل أمرٌ حتمي و سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الله في كونه ، وقديما قال ورقة بن نوفل للرسول صلّى الله عليه وسلّم في بداية نزول الوحي : « إِنَّه لم يأت أحد قطّ بمثل ما جئت به إلا عُودِي » والسبب في ذلك أن الحق والباطل ضِّدِّان والضِّدِّان لا يجتمعان ، بل لم يزل أحدهما ينفر من الآخر ويدافعه حتى يزيله ويطرده ، أو على الأقل يضعفه ويمنعه من أَنْ يكون له تأثير في واقع الحياة ، لذا فمَنْ حاول الجَمَعَ بين الحق والباطل لم يجتمعا له، وكان الباطلُ أولى به!!
والعجيب أنَّ أهل الباطل لا يكفيهم بقاؤهم على باطلهم ، وإنما يسعون إلى محق الحق وأهله وإزالتهم وصَدّ الناس عنهم بكل ما أوتوا من قوة ، ويحْتَالُون في إِضْلَالِهم بكل حِيلَةٍ و إمالتهم إِليهم بكل وسيلة ، وقد صَوَّرَ القران طَرَفًا من ذلك ، قال سبحانه :[ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ] أي : ولقد كان مكرهم بالحق وبمن جاء به من الشدة بحيث كادت الجبال بسببه تزول وتنقلع من أماكنها، لكن الله بقدرته وقوته يَرُدُّ كيدهم في نحورهم ، فلا يغن عنهم كيدهم ولا مكرهم شيئا، قال سبحانه : [ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ] أي: يفسد ويبطل ، ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فأمرهم لا يروج ويستمر إلا على غبي أو متغابي.
والباطل مهما ملك من القوة والعتاد دائما ذليل ، و الحق دائما عزيز شعار صاحبه و المدافع عنه [ لا تَخَفْ. إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى] ، وهي العبارة التى ذَكَّر الله بها موسى عندما أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً من سحر فرعون وضخامته، ومعناها كما يقول صاحب الظلال : أنت الأعلى لأن معك الحق ومعهم الباطل. معك العقيدة ومعهم الحرفة. معك الإيمان بصدق ما أنت عليه ومعهم الأجر على المباراة ومغانم الحياة. أنت متصل بالقوة الكبرى وهم يخدمون مخلوقا بشريا فانيا مهما يكن طاغية جبارا. ان القوة المادية- كائنة ما كانت- لا تملك أن تستعبد إنساناً يريد الحرية، ويستمسك بكرامته الآدمية. فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه. أما الضمير. أما الروح. أما العقل. فلا يملك أحد حبسها ولا استذلالها، إلا أن يسلمها صاحبها للحبس والإذلال! .
والثابت بيقين أَنَّ الغلبة دائما للحق، أَمَّا الباطل فأمره الى زوال، وتلك سنة لا تتخلف أبداً : [فَأَما الزّبد فَيذْهب جفَاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض]والزَبَد :ما يعلو الماءَ وغيره من الرَّغوة عند غليانه أو سرعة حركته، ووجه الشبه هنا أَنَّ الحق في استقراره ونفعه كالماء المستقرّ النافع، وكالمعدن النّقي الصّافي. والباطل في زواله وعدم نفعه كالرغوة التي يقذفها السّيل على جوانبه، وكشوائب المعدن التي يطرحها ويتخلّص منها عند انصهاره، فيبقى الحقّ ويثبت، ويزول الباطل ويتبدّد.
ومما يجب أنْ يُعرف أنَّه إِذا كان النصر أمر لا شك فيه فإِنَّه لا يأتي دون جهد عظيم يُبْذَلُ وتضحيات تُقَدَّمُ ، كما أنَّه قد يتأخر لأنَّ الله تعالى يريد لأهله النصر الأكبر والأكمل والأعظم والأدوم والأكثر تأثيراً في واقع الحياة وفي عموم الناس ، يدل على ذلك أنَّ نصر الرسول الكريم ومن معه من المؤمنين لم يحصل في يوم وليلة ولا سنة واحدة ، وإنَّما تأخر مدة ، ثم جآءهم النصر الذي دخل بسببه الناس في دين الله أفواجاً . اللهم ارزقنا حسن الثقة بك ، واجعلنا ممن يعلمون الحق ويعملون له ويوقنون بانتصاره كأنما يرونه رَأْيَ الْعَيْنِ.
المصدر: اسلام ويب