التوحيد سفينة النجاة للبشرية
التوحيد هو جوهر دين الأنبياء عليهم السلام: "وما أرسلنا من قبلك من رسول
إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" (الأنبياء، الآية 25). والمقصود
بالتوحيد هو إفراد الله عز وجل بما يستحقه من الأسماء والصفات والأفعال
والحقوق؛ فهو سبحانه المستحق لأسماء الجلال وصفات الكمال، وهو سبحانه
المتفرد بالخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة والبعث والنشور والحساب
والعقاب الأخروي، كما أنه سبحانه المستحق وحده للطاعة والحب المطلق.
والتوحيد حق لله عز وجل على عباده: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"
(الذاريات، الآية 56)، مَن علِمه وقام به كان حقاً على الله عز وجل أن
يسعده في الدنيا والآخرة؛ فعن معاذ بن جبل قال: أنا رديف النبي صلى الله
عليه وسلم، فقال: يا معاذ، قلت: لبيك وسعديك، ثم قال: مثله ثلاثاً "هل تدري
ما حق الله على العباد؟" قلت: لا، قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا
يشركوا به شيئاً"، ثم سار ساعة فقال: فقال: "يامعاذ"، قلت: لبيك وسعديك،
قال: "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم" (رواه
البخاري).
والبشرية لا يمكنها معرفة التوحيد وتعلمه وتطبيقه والقيام به إلا إذا علمها
الله عز وجل، لأنه من أمر الغيب. ولهذا أرسل الله عز وجل الرسل عليهم
الصلاة والسلام لتعليم التوحيد وإرشاد البشرية لكيفية القيام به على الوجه
الصحيح. ولذلك، فالتوحيد هو: توحيد المعبود، وهو الله عز وجل، وتوحيد طريق
العبادة باتباع الرسول، ولهذا كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم النبي
الخاتم الذي نسخ ما قبله من الشرائع، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي" (رواه أحمد)، وقال عليه الصلاة
والسلام عن نزول عيسى عليه السلام آخر الزمان: "والله لينزلن ابن مريم
حكماً عادلاً، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير" (رواه مسلم)، في دلالة على
اتباعه لشريعة محمد عليه الصلاة والسلام.
وهذه المكانة العظيمة للتوحيد ناتجة عن تعلق التوحيد بالرب والإله عز شأنه من جهة، ولنتائجها العظيمة على الموحدين من جهة أخرى.
فتوحيد الله عز وجل يقوم على أركان ثلاثة، هي أركان نجاة البشرية وصلاحها ونجاحها وسعادتها في الدنيا والآخرة، وهذه الأركان هي:
1 - العلم: فلا توحيد إلا بعلم، قال تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)
(محمد، الآية 19). ولنشر العلم بالتوحيد أنزل الله عز وجل جبريل على رسله،
ومنهم محمد عليهم الصلاة والسلام: "إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى"
(النجم، الآيتان 4 و5).
ومن هنا جاءت الشريعة الإسلامية بإعلاء شأن العلم، لأن توحيد/ عبادة الله
عز وجل لا يكونان إلا بالعلم. وكذلك عمارة الأرض التي استخلفنا الله فيها
لإقامة التوحيد، لا تكون إلا بالعلم: "والشمس والقمر بحسبان" (الرحمن،
الآية 5).
فالموحد الحقيقي هو من يتعلم ويهتم بالعلم وينبذ الجهل والخرافة في الدين
والدنيا. ولذلك، كان الأنبياء جميعاً وأتباعهم الصادقون في معسكر العلم
والمعرفة دوماً، وكان الكهان والمشعوذون ومدّعو النبوة في معسكر الخرافة
والدجل والجهل، فبهذا تروج أباطيلهم على البسطاء والسذج.
وأيضاً، كان الأنبياء وأتباعهم المخلصون باحثين دوماً عن المعرفة والصناعة
والحضارة، فنوحٌ عليه السلام صنع الفُلك، وداود صنع الدروع، وسليمان ملك
الدنيا، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم حث أصحابه على العلم والتعلم،
فاستبدل الأسرى بتعليم الصبيان –أخرجهم من الرق بإخراج الصبيان من الأمية–
وأمر زيد بن حارثة بتعلم السريانية، وقبل فكرة سلمان الفارسي بحفر الخندق
وهي ثقافة وافدة، وعلى هذا سار أصحابه من بعده، حتى فشا العلم وانتشرت
المعرفة، فنعمت البشرية جمعاء، وليس المسلمون فحسب، بأنوار العلم الحقيقي
بتوحيد الله عز وجل وبأنوار العلم الحقيقي بعمارة أرضه، وانحسرت الخرافة
والكهانة والجهل التي أفسدت دين الناس ودنياهم.
واليوم، فإن نجاة البشرية باتباع العلم الحقيقي بغاية الخلق والوجود.
والعلم الحقيقي بالعلم النافع الذي يجلب السعادة. لكن غالب البشرية اليوم،
وللأسف "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" (الروم،
الآية 7).
2 - العدل: "وإذ قال لقمان لابنه وهو يعِظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك
لظلم عظيم" (لقمان، الآية 13). والشرك هو نقيض التوحيد؛ فبأي حق يُعبد
ويطاع غير الله عز وجل؟
ولذلك، كان الأمر بالعدل قضية محورية في القرآن الكريم والسنة النبوية. ومن
هنا ضرب الأنبياء أروع الأمثلة في إقامة العدل والحرص عليه بين الناس،
وكان على رأس هذه الأمثلة حرص الأنبياء على العدل في حق الله عز وجل، ببيان
وجوب التوحيد وعظمته، والتحذير من الشرك والكفر بالله عز وجل، ومن ثم
الحرص على نصرة المظلوم وردع الظالم ورد الحقوق لأصحابها.
ففي هذا شعيب عليه السلام يحرص على العدل في تعامل الناس بالموازين، وهذا
يوسف عليه السلام يعرض خدماته على الملك الكافر ليقيم العدل بين رعيته،
ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ينصر الضعيف المظلوم من أبي جهل في مكة،
ويأمر أصحابه بالهجرة عند ملك كافر وعادل.
وعلى طريق العدل سار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأقاموا توحيد الله
في دينهم، وعمروا الدنيا بالعدل، ونصروا المظلوم مهما كان دينه، وأخذوا على
يد الظالم مهما كان نسبه ومنزلته، فزال الاحتلال على كثير من أرجاء
العالم، وتنفست الملايين الصعداء مع غياب الضرائب والمهانة التي كانوا
يرزحون تحتها لقرون طويلة.
فالموحد الحقيقي يقيم العدل في توحيد الله بالطاعة والعبادة المطلقة، ويقيم
العدل مع عباد الله من بشر وحيوان وجماد، ولذلك عمرت حضارة الإسلام لليوم
رغم ضعفها المادي والعسكري.
واليوم، فالبشرية في أمسّ الحاجة إلى العدل بالتزام توحيد الله عز وجل
بالطاعة والعبادة، وفي أمسّ الحاجة إلى عدل الشريعة الذي يساوي بين الناس
جميعاً ويقيم لهم موازين القسط في أعمالهم وتصرفاتهم.
3 - الاستقامة: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا
هم يحزنون" (الأحقاف، الآية 13). والاستقامة هي الثبات على طاعة الله عز
وجل، وهذا يشمل حقوق الله عز وجل وحقوق الناس وغيرهم.
وهذه الاستقامة تكون بوازع داخلي، يراقب علم الله بأحواله. ولذلك، لا ترتبط
هذه الاستقامة بخوف من الناس ولا بخوف من القانون ولا بحال الضعف، بل هي
استقامة دائمة في كل حال.
وبالاستقامة على التوحيد والشريعة كان الأنبياء والمخلصون من أتباعهم قدوة
للعالمين، ومصدر هداية وسعادة. وكلما بعد الاتباع عن الاستقامة زادت
المظالم، وتوسع الجهل والخرافة، وبذلك تبدلت أحوال الأمم المؤمنة.
فالمسلمون لما استقاموا على دين الله عز وجل بالعلم والعدل، فتحوا في نصف
قرن نصف العالم، ولما تخلى كثير من المسلمين عن الاستقامة سحبت العزة
والمنعة من تحت أرجلهم.
والعالم اليوم في أمسّ الحاجة إلى استقامة الموحدين، لأنه يفتقد للقدوة الحقيقية التي تنير له الطريق وتبعث في قلبه الأمل.
والبشرية اليوم بين من ينعم بالحداثة والرقي لكنه يعاني اغتراباً قاتلاً
لروحه في عوالم المادة والعدم –الفضاء السايبري- وبين من يشقى في الفقر
والعوز ويموت لهثاً خلف أوهام غنى كاذب ولذة سامة. ولا مخرج لهم إلا
بالتوحيد الذي يشيع بينهم العلم الحقيقي والعدل الصحيح والاستقامة الصادقة.