قسم الله الرزق بين عباده ما بين غنى وفقير، لتقوم مصالح العباد في المعاش والمعاد،وأن الله له الحكمة البالغة في الخلق والتقدير والتضييق
على عباده والتيسير، وله الحكمة البالغة في الحكم والتشريع، فأحكام شريعته كلها عدل ورحمة وحكمة مصلحة للعباد في دنياهم وأُخراهم(ومن
أحسن من الله حكماّ لقوم يوقنون)سورة المائدة،فله الحمد في منعه وعطائه،وعلى العباد إذا وسع عليهم أرزاقهم أن يشكروه، ويقوموا بما
يجب عليهم في هذه الأرزاق، وعلى العباد إذا قدرت عليهم أرزاقهم أن يصبروا على تقدير الواحد الخلاق، فهو أعلم بمصالحهم وهو أرحم بهم
من أُمهاتهم،لقد قسم الله الرزق على عباده، فمنهم من بسط له في رزقه، ومنهم من قدر عليه رزقه، وذلك لحكمٍ عظيمة باهرة، قسم الله الرزق على
عباده ليعرفوا بذلك أنه المدبر لجميع الأمور، وأن بيده مقاليد السموات والأرض،فهذا يوسَّع عليه،والآخر يضيَّق عليه، ولا راد لقضائه
وقدره،وليعتبروا بهذا التفاوت في الدنيا،تفاوت ما بينهم في درجات الآخرة، فكما أن الناس في هذه الدنيا متفاوتون، فمنهم من يسكن القصور
المشيدة العالية، ويركب المراكب الفخمة الغالية، ويتقلب في ماله وأهله وبنيه في سرور وحبور، ومنهم من لا مأوى له ولا أهل ولا مال ولا
بنون، ومنهم ما بين ذلك على درجات مختلفة، فإن التفاوت في درجات الآخرة أعظم وأكبر وأجل وأبقى،قال تعالى(انظر كيف فضلنا بعضهم على
بعض،وللاّخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاّ)سورة الإسراء،
فإذا كانت الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً،فإنه ينبغي أن نتسابق إلى
درجاتها العالية وحياتها الباقية ذلك خير وأحسن تأويلاً،قسم الله الرزق بين عباده ليعرف الغني قدر نعمة الله عليه بالإيسار فيشكره عليها
ويلتحق بالشاكرين، ويعرف الفقير ما ابتلاه الله به من الفقر فيصبر عليه وينال درجة الصابرين(إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)سورة
الزمر،وهو مع ذلك لا يزال يسأل ربه الميسرة وينتظر الفرج من رب العالمين،ولتقوم مصالحهم الدينية والدنيوية،فلو بسط الرزق لجميع العباد
لبغوا في الأرض بالكفر والطغيان والفساد، ولو ضيق الرزق على جميعهم لاختل نظامهم،لو كان الناس في الرزق على درجة واحدة،لم يعمل أحدهم
للأخر صنعة، ولم يحترف له بحرفة، لأن الكل في درجة واحدة، فليس أحدهم أولى بهذا من الآخر،ولا يحصل الفقير بالمال إذا كان الكل في درجة
واحدة،إن هذا وأضعافه من المصالح يفقد لو تساوى الناس في الأرزاق،
ولكن الحكيم العليم قسم بينهم أرزاقهم، وأمر الأغنياء بالشكر والإنفاق،
وأمر الفقراء بالصبر،فعلينا أن نرضى بقسمه وأقداره،فنؤمن بحكمه وأسراره،قال تعالى(الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم)سورة العنكبوت،
اللهم لك الحمد والشكر على نعمك الظاهرة والباطنة التي لا يحصيها غيرك
اللهم رضنا وقنعنا بما قسمت لنا وارض عنا يا كريم.