بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي (وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.
ماذا قدمنا لحياتنا؟!
الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد وعلى آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إن مما هو ملاحظ في زماننا هذا أيها الأحبة الكرام تقارب الشهور والأعوام وسرعة مرور الأيام،حتى أصبحنا لا نجد لها طعما! ولا نشعر فيها ببركة !،وهذا مصداق ما أخبر به نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، فعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يُقْبَضَ الْعِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلَازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الْفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الْهَرْجُ وهو الْقَتْلُ الْقَتْلُ،حتى يَكْثُرَ فِيكُمْ الْمَالُ فَيَفِيضَ". رواه البخاري(989) واللفظ له، ومسلم (157)
يقول القاضي عياض –رحمه الله- :" المراد بقصره عدم البركة فيه، وأن اليوم مثلا يصير الانتفاع به بقدر الانتفاع بالساعة الواحدة".فتح الباري ( 13/ 17)
وقد بين لنا نبينا صلى الله عليه وسلم كيفية هذا التقارب،فعن أنس –رضي الله عنه- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ،وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونُ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونُ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرَمَةِ بِالنَّارِ-الشعلة الواحدة من النار-".رواه الترمذي (2332)،وصححه الشيخ الألباني –رحمه الله-.
يقول الحافظ ابن حجر –رحمه الله- :" فالذي تضمنه الحديث قد وجد في زماننا هذا فإنا نجد من سرعة مر الأيام ما لم نكن نجده في العصر الذي قبل عصرنا هذا ".فتح الباري (13/ 16)
أيها الأفاضل إن مع ما يشير إليه هذا التقارب في الزمان من قرب زوال هذه الحياة الفانية! واقتراب الحياة الباقية! إلا أن الكثير منا - إلا من رحمه الله- قد يُضيع وقته فيما لا يعود عليه نفعه بل قد يضره! مع أن أوقاتنا هي أعمارنا وهي أغلى ما نملك في هذه الدنيا الفانية.
يقول الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- :" فالوقت هو أغلى شيء ، لكن هو أرخص شيء عندنا الآن، نمضي أوقاتنا كثيرة بغير فائدة، بل نمضي أوقاتنا كثرية فيما يضر، ولست أتحدث عن رجل واحد، بل عن عموم المسلمين. اليوم- مع الأسف الشديد- أنهم في سهو ولهو وغفلة، ليسوا جادين في أمور دينهم، أكثرهم في غفلة وفي ترف، ينظرون ما يترف به أبدانهم وإن أتلفوا أديانهم ". شرح رياض الصالحين ( 6/20)
لقد غرتنا الأماني!وأعجبتنا الملذات! وغلبت علينا الشهوات، وأطلنا الأمل!فأسئنا العمل!ونسينا أن هذه الدنيا ما هي إلا دار ممر! ،وأن الحياة الحقيقية التي ينبغي لكل البرية أن يهتموا بها، ويحرصوا على التزود لها لهي الحياة الأخروية.
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله-:" إن الحياة التي ينبغي السعي في كمالها وتحصيلها وكمالها ، وفي تتميم لذاتها ، هي الحياة في دار القرار ، فإنها دار الخلد والبقاء ".تفسير السعدي (ص 924)
فكل عبد أيها الأحبة سيتمنى يوم الحساب أن لو عمل في دنياه ما ينفعه في أخراه، فيقول كما أخبرنا العزيز الغفور:
(يا ليتني قدمت لحياتي)[ الفجر:24]
يقول الإمام الطبري –رحمه الله-:" يقول تعالى ذكره مخبرا عن تلهف ابن آدم يوم القيامة وتندمه على تفريطه في الصالحات من الأعمال في الدنيا التي تورثه بقاء الأبد في نعيم لا انقطاع له (يا ليتني قدمت لحياتي) في الدنيا من صالح الأعمال لحياتي هذه التي لا موت بعدها".تفسير الطبري (30 / 189)
ويقول الإمام ابن كثير –رحمه الله- :" يعني: يندم على كل ما أسلف منه من المعاصي إن كان عاصيا، ويود لو كان ازداد من الطاعات إن كان طائعا ".تفسير ابن كثير (4/511)
فيتمنى كل مطيع لرب البريات لو تزود من الخيرات وزاد من الطاعات، ولم يفرط في أي لحظة من اللحظات!
ويندم المذنب على ما اقترفت يداه من المحرمات! وما ارتكب من المنكرات! وما ضيع من الأوقات في معصية رب الأرض والسموات!.
يقول الإمام الحسن البصري –رحمه الله- لرجل حضر الجنازة : "أتراه لو رجع إلى الدنيا لعمل صالحاً ؟فقال الرجل : نعم ، قال : فإن لم يكن هو ، تكن أنت" . الكشكول (2 /230)
أيها الأفاضل كم فرق الموت بين الأحباب، وفصل بين الإخوة والأصحاب! بعد أن كانوا كلهم فوق الأرض! فأصبح منهم من هو اليوم تحت التراب، ومن بقي منهم! فلا محالة أنه لاحق به كما قدر ذلك العزيز الوهاب حيث قال :( إنك ميت وإنهم ميتون) [ الزمر: 30]
يقول الإمام ابن كثير –رحمه الله- :"ومعنى هذه الآية أنكم ستنقلون من هذه الدار لا محالة، وستجتمعون عند الله تعالى في الدار الآخرة". تفسير ابن كثير ( 4/ 53)
لماذا لا يسأل من بقي ينتظر دوره! ولم تأتيه بعد منيته!،نفسه هذا السؤال؟!، قبل أن يقف أمام الكبير المتعال، فيقول في نفسه ما الذي قدمته لحياتي الأبدية؟ ولم لا اغتنم ما بقي من عمري في هذه الحياة الأمدية! لما ينفعني ويُرضي عني رب البرية؟!.
يقول الإمام الحسن البصري –رحمه الله- :" حق على كل من يعلم أن الموت مورده ، وأن الساعة موعده ، وأن القيام بين يدي رب العالمين مشهده ، أن يطول حزنه" .الكنى والأسماء للدولابي (3/1005)
نعم حري به أن يغتنم ما بقي من عمره فيما يرضي خالقه، قبل أن يغادر إلى دار الجزاء والمستقر ، فلا ينفعه بعد ذلك الندم والحسرات على ما فرط من لحظات وضيع من أوقات، فيقول بعد أن يقف أمام رب الأرض والسموات: (رب ارجعون (99) لعلي أعمل صالحا فيما تركت) [ المؤمنون:99-100]
يقول الشيخ السعدي –رحمه الله-:" يخبر تعالى عن حال من حضره الموت من المفرطين الظالمين، أنه يندم في تلك الحال ، إذا رأى مآله، وشاهد قبح أعماله، فيطلب الرجعة إلى الدنيا لا للتمتع بلذاتها واقتطاف شهواتها، وإنما ذلك ليقول : (لعلي أعمل صالحا فيما تركت )من العمل،وفرطت في جنب الله ". تفسير السعدي (ص 559)
فإلى متى منا أيها الأحبة الغفلة والإساءة في العمل؟!
ألا نعتبر بموت من سبقنا من الإخوة والأصحاب والأهل ؟!
لماذا نسوف في التوبة والرجوع إلى الله عز وجل !!
فلنبادر إلى الله جل وعلا ونعلق قلوبنا بالآخرة! ولنجتنب التسويف في التوبة! ولنحذر من طول الأمل!.
يقول الإمام ابن القيم –رحمه الله- :" اشتر نفسك اليوم فإن السوق قائمة، والثمن موجود والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يوم لاتصل فيها إلى قليل ولا كثير ( ذلك يوم التغابن) [ التغابن:9] ( يوم يعض الظالم على يديه) [ الفرقان:27]". الفوائد (49)
فالله الله أيها الأفاضل والإخوان في الرجوع إلى العزيز الرحمن، والبعد عن الهوى والشهوات وكل مسالك الشيطان، قبل فوات الأوان، ولنسلك في ذلك الطرق المرضية، ونستعد للحياة الأبدية بالأعمال الصالحة وكل ما يُرضي رب البرية.
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يوفقنا وإياكم لكل ما يحبه ويرضاه،وأن يُبعد عنا شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا ممن يستثمر دنياه لأخراه،فهو سبحانه قدير وبالإجابة جدير.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
أبو عبد الله حمزة النايلي