تذكير الأحباب بأهمية الاحتساب
هذه أيها الأحبة مقالة جديدة لشيخنا أبي عبد الله حمزة النايلي ( وفقه الله)، نفعنا الله وإياكم بها.
الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين،نبينا محمد و على آله،وصحبه أجمعين.
أما بعد:
إنَّ من أهم ما يُعين العبد المسلم أيها الأخوة والأخوات على اجتناب الذنوب والمحرمات،والمبادرة دوما لفعل الطاعات من الواجبات والمستحبات، والمسارعة في كل الأوقات للتزود من الخيرات، هو احتساب ما يقوم به من عمل عند رب الأرض السماوات، يقول الإمام ابن الأثير –رحمه الله- :"والاحتساب في الأعمال الصالحة، وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبا للثواب المرجو منها". النهاية في غريب الأثر (1/382)
فتذكير النفس باحتساب الأجر والثواب عند العزيز الوهاب أيها الأحباب لهو من أهم الأسباب التي تعين على الحرص على فعل الخيرات وكل ما هو صواب، يقول الإمام ابن القيم- رحمه الله-:"فإن كل عمل لابد له من مبدأ وغاية فـلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الإيمان، فيكون الباعث عليه هو الإيمان المحض لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك، بل لابد أن يكون مبدؤه محض الإيمان وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته، وهو الاحتساب".الرسالة التبوكية(ص 10)
لأن الأصل في النفس التي بين جنبي العبد أيها الأفاضل أنها أمارة بالسوء، مُحبة للكسل،محتاجة دائما إلى معاهدة وتوجيه، لذا لا بد على صاحبها أن يجاهدها باستمرار ليروضها على طاعة العزيز الغفار،ويُجنبها معصية الكبير الجبار, وهذا هو الجهاد الذي لا غنى للعبد عنه في كل وقت وحين إذا أراد أن ينال الأجر و رضا أرحم الراحمين بإذن رب العالمين فعن فضالة بن عبيد-رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم:" الْمُجَاهِدُ من جَاهَدَ نَفْسَهُ في طَاعَةِ اللَّهِ عز وجل".رواه الإمام أحمد في المسند (6/22) ، وصححه الشيخ الألباني-رحمه الله-في السلسلة الصحيحة (549)
يقول الشيخ السعدي-رحمه الله- :"فإن النفس ميالة إلى الكسل عن الخيرات، أمارة بالسوء،سريعة التأثر عند المصائب، وتحتاج إلى صبر وجهاد في إلزامها طاعة الله، وثباتها عليها، ومجاهدتها عن معاصي الله،وردعها عنها، وجهادها على الصبر عند المصائب، وهذه هي الطاعات:امتثال المأمور ،واجتناب المحظور، والصبر على المقدور، فالمجاهد حقيقة :من جاهدها على هذه الأمور لتقوم بواجبها ووظيفتها".بهجة قلوب الأبرار(ص21)
إن من خصائص أهل الإيمان أيها الأحبة والإخوان :احتساب الأعمال الصالحة مهما كان حجمها عند المنان كما أخبرنا عنهم العزيز الرحمن، حيث قال سبحانه:(إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما) [ النساء: 104]
يقول الإمام ابن كثير – رحمه الله- : "وترجون من الله ما لا يرجون " أي: أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو وعد حق وخبر صدق، وهم لا يرجون شيئا من ذلك، فأنتم أولى بالجهاد منهم، وأشد رغبة فيه وفي إقامة كلمة الله وإعلائها ( وكان الله عليما حكيما ) أي: هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه من أحكامه الكونية والشرعية، وهو المحمود على كل حال ". تفسير ابن كثير (1 /551)
فيا من تصدر لدعوة الأنام للعمل والتمسك بدين الإسلام، اعلم- ثبتك العلام- أنَّ من أهـم ما يُقوي همتك ويَشد مـن عزيمتك بعد توفيق الباري جل وعلا لك أن تحتسب هذا العمل الكريم الذي فيه خير كثير و أجر عظيم عند العزيز الرحيم، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:"من دَعَا إلى هُدًى كان له من الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ من تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذلك من أُجُورِهِمْ شيئا، وَمَنْ دَعَا إلى ضَلَالَةٍ كان عليه من الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ من تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذلك من آثَامِهِمْ شيئا". رواه مسلم ( 2674)
يقول الإمام ابن القيم – رحمه الله- :"أخبر أن المتسبب إلى الهدى بدعوته له مثل اجر من اهتدى به، والمتسبب إلى الضلالة بدعوته عليه مثل إثم من ضل به ،لأن هذا بذل قدرته في هداية الناس، وهذا بذل قدرته في ضلالتهم،فنزل كل واحد منهما بمنزلة الفاعل التام ". مفتاح دار السعادة (1/62)
ويقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :"هذا الحديث - وما أشبهه من الأحاديث - فيه:الحث على الدعوة إلى الهدى والخير وفضل الداعي،والتحذير من الدعاء إلى الضلالة والغي،وعِظم جرم الداعي وعقوبته.والهدى:هو العلم النافع، والعمل الصالح فكل من علم علما، أو وجه المتعلمين إلى سلوك طريقة يحصل لهم فيها علم : فهو داع إلى الهدى .وكل من دعا إلى عمل صالح يتعلق بحق الله أو بحقوق الخلق العامة والخاصة: فهو داع إلى الهدى، وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها إلى الدين:فهو داع إلى الهدى، وكل من اهتدى في علمه أو عمله،فاقتدى به غيره:فهو داع إلى الهدى، وكل من تقدم غيره بعمل خيري، أو مشروع عام النفع: فهو داخل في هذا النص.وعكس ذلك كله:الداعي إلى الضلالة، فالداعون إلى الهدى: هم أئمة المتقين، وخيار المؤمنين والداعون إلى الضلالة: هم الأئمة الذين يدعون إلى النار، وكل من عاون غيره على البر والتقوى:فهو من الداعين إلى الهدى .وكل من أعان غيره على الإثم والعدوان : فهو من الداعين إلى الضلالة ". بهجة قلوب الأبرار (ص 62)
وتذكر أنك إذا احتسبت إرشادك للناس إلى فعل الخيرات والحث على ملازمة الطاعات والتقرب إلى رب البريات فإن لك نفس أجر من عمل بذلك بإذن رب الأرض والسموات، فعن أبي مسعود البدري – رضي الله عنه- قال :"مَنْ دَلَّ على خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ ". رواه مسلم ( 1893)
يقول الإمام النووي – رحمه الله- :"فيه فضيلة الدلالة على الخير والتنبيه عليه والمساعدة لفاعله، وفيه فضيلة تعليم العلم ووظائف العبادات لاسيما لمن يعمل بها من المتعبدين وغيرهم والمراد بمثل أجر فاعله أن له ثوابا بذلك الفعل كما أن لفاعله ثوابا ولايلزم أن يكون قدر ثوابهما سواء ".الشرح على صحيح مسلم (13/ 39)
ويا أيها المنفق على أهله،اعلم كذلك - كتب الله أجرك- إذا أردت الثواب من المنان عليك أن تستحضر أن ما تقوم به هو عبادة للرحمن،فعن أبي مسعود البدري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الْمُسْلِمَ إذا أَنْفَقَ على أَهْلِهِ نَفَقَةً وهو يَحْتَسِبُهَا كانت له صَدَقَةً ". رواه البخاري (5036) ومسلم (1002) واللفظ له.
يقول ابن الجوزي-رحمه الله- :"معنى (يحتسبها):ينوي بها طاعة الله، ويرجو ثوابها منه، فبذلك تجري نفقته مجرى الصدقة". كشف المشكل (2 /197)
ويقول الإمام النووي – رحمه الله- :"الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة وأطفال أولاده والمملوك وغيرهم ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم ". الشرح على صحيح مسلم (7/89)
ويا من فَقد في هذه الدنيا الفانية قريبا أو حبيبا له ، اعلم كذلك – صبرك العليم القدير- أنك إذا أردت أن تنال الأجر الكبير و الخير الكثير عند العليم الخبير فعليك بالصبر على ما نزل بك والاحتساب، وإياك أن تجزع من هذا المصاب! لأن هذا منافي لما حثك عليه العزيز الوهاب وهو مانع من تحصيل الأجر و الثواب، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:" يقول الله تَعَالَى: ما لِعَبْدِي الْمُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ من أَهْلِ الدُّنْيَا، ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلا الْجَنَّةُ". رواه البخاري (6060)
قال العيني – رحمه الله- :" – أي- صبر على فقد صفية وابتغى الأجر من الله تعالى،والاحتساب طلب الأجر من الله تعالى خالصاً،واحتسب بكذا أجراً عند الله أي : نوى به وجه الله ". عمدة القاري (23 /38)
وتذكر: يا من أنفقت شيئا في سبيل رب العالمين من أجل نفع الفقراء وخدمة المساكين،ويا من فتح عليك الباري جل وعلا باب تعليم الناس وحثهم على التمسك بسنة خير المرسلين،ويا من اعتنيت بتربية أولادك على وفق تعاليم الدين وغرست في قلوبهم حب الإسلام والمسلمين أن هذه الأعمال الجليلة التي تقومون بها ستبقى لكم بشرط إخلاصكم واحتسابكم أنها عند خالقكم صدقةً جارية تنفعكم بعد موتكم وعند الوقوف بين يدي ربكم، فعن أبي هريرة – رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال :" إذا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إلا من ثَلَاثَةٍ،إلا من صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له ". رواه مسلم ( 1631)
يقول الإمام النووي – رحمه الله- :" قال العلماء : معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف، وفيه فضيلة الزواج لرجاء ولد صالح ". الشرح النووي على صحيح مسلم (11/85)
فالله الله أيها الأحبة الكرام على استحضار النية في جميع ما نقوم به من عبادات وحتى العادات لكي نؤجر على ذلك عند رب الأرض والسماوات ، فهذا الذي يُعيننا دائما على فعل الطاعات و يشجعنا على الازدياد من الخيرات في كل الأوقات بإذن رب البريات.
يقول الشيخ السعدي – رحمه الله- :"ينبغي للعبد أن يقصد وجه الله تعالى، ويخلص العمل لله في كل وقت، وفي كل جزء من أجزاء الخير، ليحصل له بذلك الأجر العظيم وليتعود الإخلاص، فيكون من المخلصين،وليتم له الأجر سواء تم مقصوده أم لا، لأن النية حصلت واقترن بها ما يمكن من العمل ". تفسير السعدي (ص 202)
ولنستحضر حتى عند نومتنا وراحتنا نية التقوي بذلك على عبادة الله جل وعلا كما كان يفعل أصحاب نبينا صلى الله وعليه وسلم،فهذا معاد بن جبل -رضي الله عنه-يقول:" أَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كما أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي".رواه البخاري(4086)
يقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله- :" يـعني أنه ينـوي بنومه التقوى على القيام في آخر الليل، فيحتسب ثواب نومه كما يحتسب ثواب قيامه ". جامع العلوم والحكم (ص 295)
فالله أسأل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يُوفقنا وإياكم لكل ما فيه خير وصواب، وأن يجعلنا دائما من أهل الاحتساب، وأن ييسر لنا تحقيق ما يُحبه ويرضاه، ويُجنبنا جميعا ما يُبغضه ويأباه، فهو سبحانه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير .
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
صورة
أبو عبد الله حمزة النايلي