نفقة الزوجات
الأصل في نفقة الزوجات قوله تعالى: {اسكنوهن من حيت سكنتم من وجدكم} (الطلاق: 6) وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: {اسكنوهن من حيث سكنتم وانفقوا عليهن من وجدكم} وقراءته لا بد وأن يكون مسموعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّمفذل ذلك على وجوب النفقة، وقال عليه السلام: «أوصيكم بالنساء خيراً» إلى أن قال: «وإن لهن عليكم نفقتهن وكسوتهن بالمعروف» وقال عليه السلام لهند امرأة أبي سفيان: «خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف» والمعنى فيه أن المرأة محبوسة عند الزوج لمنفعة تعود إلى الزوج فيكون كفايتها في مال الزوج كالقاضي لما حبس نفسه لأعمال المسلمين كانت نفقته في بيت مال المسلمين، وكعامل الصدقات لما حبس نفسه لعمل المساكين استوجب كفايته في مالهم كذا ههنا.
ثم هذا الفصل يشتمل على أنواع:
النوع الأول في بيان من يستحق النفقة من الزوجات ومن لا يستحق
قال: إذا تزوج الرجل امرأة كبيرة فطلبت النفقة وهي في بيت الأب بعد، فلها ذلك إذا لم يطالبها الزوج بالنقلة، لأن النفقة مستحقة لها على الزوج لما ذكرنا من الدلائل، ولكل أحد يتمكن من المطالبة بحقه، وهذا لأن النفقة حق المرأة، والانتقال حق الزوج، فإذا لم يطالبها بالنقلة فقد ترك حقه وهذا لا يوجب بطلان حقها.
وقال بعض المتأخرين من أئمة بلخ: لا تستحق النفقة إذا لم تزف إلى بيت زوجها والفتوى على جواب «الكتاب» ، فإن كان الزوج قد طالبها بالنقلة فإن لم تمتنع عن الانتقال إلى بيت الزوج لها النفقة أيضاً، وأما إذا امتنعت عن الانتقال، فإن كان الامتناع لحق بأن امتنعت لتستوفي مهرها فلها النفقة لأن إيفاء المهر واجب على الزوج، ولها حق حبس نفسها عن الزوج إلى أن تستوفي المهر فإنما حبست نفسها بسبب فوات مهرها
(3/519)
فيكون فوات الاحتباس محالاً على الزوج فلا يسقط حقها (302أ1) في النفقة كالفرقة إذا جاءت من قبل الزوج قبل الدخول بها لا يسقط حقها عن المهر كذا ههنا.
فأما إذا كان الامتناع بغير حق بأن كان أوفاها المهر أو كان المهر موجلاً، أو وهبته منه فلا نفقة لها لأن فوات الاحتباس ههنا لمعنى من جهتها، والنفقة بأن الاحتباس على تبين، فتجازى بمنع بيان أداء الاحتباس وهي النفقة، ألا ترى أن الفرقة إذا جاءت من قبلها قبل الدخول تجازى بمنع جميع البدل وهو المهر كذا ههنا.
قال: وإن كانت المرأة صغيرة، فإن كانت مثلها توطأ وتصلح للجماع فلها النفقة، وإن كانت مثلها لا توطأ ولا تصلح للجماع فلا نفقة لها عندنا حتى تصير إلى الحالة التي تطيق الجماع سواء كانت في بيت الزوج، أو في بيت الأب.
فرق بين نفقة الزوج وبين نفقة المملوك، فإن نفقة المملوك تجب على المالك، وإن كانت صغيرة لا تصلح للجماع.
والفرق: وهو أن نفقة النكاح إنما تجب بسبب الاحتباس المستحق بعد النكاح، فإنما تجب إذا حصل للزوج منفعة من منافع النكاح على سبيل الخصوص وهذا لأن الاحتباس ما كان مطلوباً لعينه، وإنما كان مطلوباً لغيره وهو منافع النكاح وكان المعتبر حصول منافع النكاح على الخصوص، ومنافع النكاح على الخصوص هو الجماع، والدواعي إلى الجماع، والصغيرة التي لا تصلح للجماع لا تصلح لدواعي الجماع، فكان فوات منفعة الاحتباس لمعنى خاص بجهتها فصار كما لو نشزت بخلاف ما إذا كانت تصلح للجماع.
فأما نفقة المملوك تجب لأجل الملك فقط وذلك لا يختلف بالصغر والكبر.
قال: وإن كانت المرأة تصلح للجماع، والزوج لا يطيق الجماع فلها النفقة إذا لم تكن مانعة نفسها، لأن منفعة الاحتباس ههنا إنما فاتت لمعنى من جهة الزوج فلا يسقط حقها في النفقة، كما لو حبست نفسها من المهر.
قال: ولو كانا صغيرين لا يطيقان الجماع لا نفقة لها حتى تصير المرأة إلى الحالة التي تطيق الجماع، لأن المنع جاء لمعنى من جهتها فأكثر ما في الباب أن يجعل المنع من جهته كلاً منع، والمنع من قبلها قائم ومنع قيام المنفعة من قبلها لا يستحق النفقة.
والحاصل في جنس هذه المسائل: أنه ينظر إلى المرأة إن كانت لا تصلح للجماع لا نفقة لها سواء كان الزوج يطيق الجماع أو لا يطيق، وإن كانت المرأة تطيق الجماع فلها النفقة سواء كان الزوج يطيق الجماع أو لا يطيق.
وعن هذا قلنا: إن المجبوب إذا تزوج امرأة صغيرة لا تصلح للجماع لا يفرض لها النفقة، ولو تزوج امرأة تصلح للجماع فلها النفقة، وإن كان الزوج لا يقدر على الجماع في الوجهين جميعاً، لهذا المعنى أن المرأة في الفصل الأول لا تصلح للجماع وفي الفصل الثاني تصلح فعلم أن العبرة لما قلنا.
ثم الأصل أن المرأة إذا كانت كبيرة وهي غير مانعة نفسها عن الزوج بغير حق تستحق النفقة على الزوج.
(3/520)
وإن تعذر وطؤها بعارض أمر نحو الرتق والقرن والحيض والمرض سواء حصل هذا العارض في بيت الأب قبل الانتقال إلى بيت الزوج أو حصل بعدما انتقلت إلى بيت الزوج حتى إن المرأة الكبيرة إذا مرضت في بيت الزوج مرضاً لا يقدر الزوج على جماعها تستحق النفقة استحساناً، وكذلك الكبيرة إذا مرضت في بيت الأب مرضاً لا يقدر الزوج على جماعها، وزفت إلى بيت الزوج كذلك، أو لم تزف إلى بيت الزوج إلا أنها غير مانعة نفسها من الزوج بغير حق تستحق النفقة.
وكذلك المرأة إذا كانت رتقاء أو قرناء، أو صارت مجنونة أو أصابها بلاء يمنعه عن الجماع أو كبرت حتى لا يمكن وطؤها بحكم كبرها كان لها النفقة سواء أصابتها هذه العوارض بعدما انتقلت إلى بيت الزوج، أو قبل ذلك إذا لم تكن مانعة نفسها من الزوج بغير حق، وهذا الذي ذكرنا في هذه المسائل جواب ظاهر الرواية.
والوجه من هذه المسائل ما ذكرنا: أن المعتبر في إيجاب النفقة احتباس ينتفع به الزوج انتفاعاً مقصوداً بالنكاح وهو الجماع أو الدواعي إلى الجماع، والانتفاع من حيث الدواعي في هذه المسائل حاصل.
وروي عن أبي يوسف رحمه الله في الرتقاء والمريضة التي لا يمكن وطؤها أنه لا نفقة لها قبل أن ينقلها الزوج إلى بيت نفسه وإن انتقلت إلى بيت الزوج من غير رضا الزوج فللزوج أن يردها إلى أهلها، وأما إذا نقلها الزوج بنفسه مع علمه بذلك فليس له أن يردها بعد ذلك ولها النفقة.
ووجه ذلك: أن التسليم الذي اقتضاه العقد تسليم من غير مانع يمنع من الوطء وذلك غير موجود ههنا فكان في التسليم نوع قصور وخلل فلا تستحق النفقة، فإذا نقلها الزوج إلى بيته مع علمه بذلك فقد رضي بالخلل فكان عليه النفقة فلا يجوز ردها لرضاه بالتسليم القاصر بخلاف الصغيرة التي لا تصلح للجماع، لأن هناك المنفعة فائنة أصلاً فكان له أن يردها ولا تجب نفقتها.
أما ههنا بخلافه حتى لو كانت الصغيرة بحال تصلح لمنفعة الخدمة والاستئناس فنقلها الزوج إلى بيت نفسه ليس له أن يردها وتستحق النفقة عند أبي يوسف رحمه الله فكأنه اعتبر منفعة الاستئناس على هذه الرواية، وروي عن محمد رحمه الله في الرتقاء: أنه لا يلزم الزوج نفقتها قبل أن ينقلها الزوج بنفسه إلى بيته كما هو قول أبي يوسف رحمه الله ثم فرق أبو يوسف رحمه الله بينما إذا جاءت إلى بيت الزوج مريضة وبينما إذا مرضت في بيت الزوج فقال: إذا جاءت إلى بيت الزوج مريضة فللزوج أن يردها ولا نفقة عليه، وإذا مرضت في بيت الزوج بعدما جاءت إليه صحيحة فليس له أن يردها بل ينفق عليها إلا إن تطاول قال: لأن النكاح يعقد للصحبة والإلفة، وليس من الإلفة أن يمتنع عن الإنفاق أو يردها بقليل مرض فإذا تطاول ذلك فهو بمنزلة الرتق الذي لا يزول عادة قضاء، كما لو كانت صغيرة لا تجامع مثلها فتسقط نفقتها.
قال: وإذا احتبست المرأة في دين قبل النقلة، فإن كانت تقدر (302ب1) . أن
(3/521)
تخلي بينه وبين نفسها فلها النفقة، وإن كانت في موضع لا يقدر الزوج على الوصول إليها فلا نفقه لها، وهذا لأنها إذا قدرت على أن توصل الزوج إلى نفسها فقدر الزوج على الاستمتاع بها وفوات الاحتباس في بيت الزوج ما كان من جهتها فلا يسقط حقها، وأما إذا لم تقدر أن توصله إلى نفسها لم يتمكن الزوج من الاستمتاع بها فلا تستحق النفقة.
وأما إذا حبست بعد النقلة وبعدما فرض القاضي لها النفقة لا تبطل نفقتها، لأن التسليم قد وجد والمنع حصل بعارض أمر غير مضاف إليها فلا يؤثر في إسقاط حقها كالحيض، وهذا كله إذا كانت محبوسة في دين لا تقدر على الأداء، فإن قدرت على الأداء فلم تفعل فلا نفقة لحصول المنع مضافاً إليها، وهذا كله قول أبي يوسف رحمه الله، وهو اختيار القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله.
وذكر محمد رحمه الله في «الجامع الكبير» وفي «الأصل» : أنها إذا حبست فلا نفقة لها من غير تفصيل، وذكر الخصاف في «أدب القاضي» أنها إذا حبست فكانت قادرة على أداء الدين أو لم تكن، أو حبست ظلماً بغير حق فلا نفقة لها، وكذلك لو هرب بها هارب لم تستحق النفقة على رواية «الأصل» و «الجامع» رواية الخصاف، وعلى رواية أبي يوسف رحمه الله وهو اختيار القاضي الإمام علي السغدي رحمه الله لها النفقة.
فالحاصل: أن على رواية أبي يوسف رحمه الله وهو اختيار القاضي الإمام المعتبر افوات النفقة فوات الاحتباس من جهتها ولم يوجد ذلك ههنا، وعلى رواية «الأصل» و «الجامع» رواية الخصاف المعتبر لسقوط النفقة فوات الاحتباس لا من جهة الزوج وقد فات الاحتباس ههنا لا من جهة الزوج وهذا هو الصحيح.
والمعنى في ذلك أن النفقة إنما تجب عوضاً عن الاحتباس في بيت الزوج، فإذا كان الفوات لمعنى من جهة الزوج أمكن أن يجعل ذلك الاحتباس باقياً تقديراً، أما إذا كان الفوات بمعنى من جهة الزوجة لا يمكن أن يجعل ذلك الاحتباس باقياً تقديراً وبدونه لا يمكن إيجاب النفقة وهو نظير ما قلنا في الغاصب. إذا غصب المستأجر من يد المستأجر لا يجب الأخذ على المستأجر بهذا إن فات التمكن من الانتفاع لا من جهة المستأجر كذا ههنا.
قال: وإن حبس الزوج وهو يقدر على الأداء أو لا يقدر أو حبس ظلماً أو هرب أو...... كان لها النفقة لأن الاحتباس ههنا فات لمعنى من جهة الزوج.
قال: ولو حجّت المرأة حجة الإسلام فإن كان قبل أن تسلم نفسها فلا نفقة لها، ولو كان الزوج (دخل) بها ثم حجت المرأة مع محرم فلها النفقة في قول أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله: لا نفقة لها هكذا ذكر في «القدوري» : وذكر الخصاف رحمه الله، أنه لا نفقة لها ولم يذكر فيه خلافاً فيحمل أن يكون ما ذكر الخصاف قول محمد رحمه الله.
(3/522)
فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن الزوج لما بنى بها فقد وجد التسليم، والمانع أداء الفرض وهي مضطرة في ذلك بخلاف ما لو لم يبنى بها لأن هناك لم يوجد التسليم أصلاً.
وجه قول محمد رحمه الله: أن منفعة الاحتباس فات لمعنى من جهة المرأة فتوجب سقوط النفقة لما قلنا قبل هذا بخلاف ما لو صلت أو صامت عن رمضان فرفع على قول أبي يوسف رحمه الله فقال: تفرض لها نفقة الإقامة دون السفر بعين تعتبر ما كان قيمته للطعام في الحصر لا ما كان قيمة له في السفر لأن هذه الزيادة لحقها بأداء منفعة تحصل لها فلا يكون ذلك على الزوج أن يكتري لها؛ لأن هذا ليس من ... كالمريضة لا تستحق المداواة على الزوج وليس على الزوج أن يكتري لها لأن هذا ليس من نفقة الحضر فيكون في مالها، ولو أقامت هناك مدة لا يحتاج إليها بطلت نفقتها لأنها غير مضطرة في ذلك فصارت كالناشزة، ولو طلبت من الزوج نفقة مدة الذهاب والمجيء لم يكن لها ذلك، ولكن يعطيها نفقة شهر، لأن الواجب لها نفقة الإقامة دون السفر، ونفقة الإقامة تفرض لها شهراً فشهراً.
ثم قال: فإذا عادت أخذت ما بقي، هكذا ذكر في «القدوري» وفيه نظر، فإنَّ نفقة الزوجات لا تصير ديناً إلا بالقضاء أو بالتراضي كل ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ولم يذكر القضاء والرضا فكانت المسألة، وله قال: فإن حج الزوج معها فلها النفقة على الزوج بالاتفاق، لكن تجب نفقة الحضر، ولا تجب على السفر، ولا مؤنة السفر لما قلنا، وروي عن أبي يوسف رحمها الله تعالى أن المرأة إذا أرادت حجة الإسلام يؤمر الزوج أن يخرج معها في حجتها وينفق عليها، قال: وإذا تزوج الحر أو العبد أو المكاتب أو المدبر بأمة رجل كان لها على الزوج النفقة بقدر ما يكفيها.... بعدما توالها بيتاً أما بدون البيتوتة لا تستحق، وتفسير البيتوتة أن يخلي المولى بين الأمة وزوجها في منزل الزوج ولا يستخدمها، وهذا لأن المعتبر في استحقاق تفريفها نفسها للقيام بمصالح الزوج، وذلك يحصّل....، قلنا قال في «الكتاب» : وكذلك العبد، أو المكاتب أو المدبر إذا تزوج امرأة حرة قد يفرض عليه نفقتها فقد شرط البيتوتة في الحرة أيضاً، وهذا.... يصح لأن الحرة مهيأة للقيام بمصالح الزوج، إذ ليس ههنا من يستخدمها ويمنعها من التزوج بخلاف الأمة، فينبغي أن تستحق الحرة النفقة، في هذه المسائل لم تكن مانعة نفسها من الزوج وإن لم توجد البيتوتة، ألا ترى أن الحر إذا تزوج بحرة تستحق النفقة وإذا لم توجد البينونة، إذ لم تكن مانعة نفسها من الزوج كذا ههنا، قال: والمدبرة وأم الولد نظير الأمة، إذ المعنى لا يوجب الفصل بينهن، ثم قال: والبيتوتة غير واجبة على المولى، لأن حق المولى في الاستخدام باقي، فلو كاتبها المولى على البيتوتة فقد أبطلا حقه في الاستخدام، وهذا مما لا وجه ولا سبيل إليه، قال: ولو برأها المولى ثم
(3/523)
بدا له أن (203أ1) يستخدمها فله ذلك، لما ذكرنا أن حق المولى في الاستخدام باقي فلا تسقط بالبيتوة، كما لا تسقط بالإنكاح، ثم إذا استخدمها المولى بعد ذلك ولم يحل بينها وبين الزوج فلا نفقة لها، لأنه فات ما كان تجب به نفقتها وهو البيتوتة من جهة من له الحق، فشابهت الحرة الناشزة، قال: ولو بوأها المولى فكانت إلى المولى في بعض الأوقات
تخدمهُ من غير أن يستخدمها لم تسقط نفقتها، لأن البيتوتة من جهة المولى، والنفقة إنما تجب حقاً للمولى فلا يسقط بصنع يوجد من عند المولى.
بخلاف ما إذا استخدمها المولى على ما مر، قال: ولو جاءت إلى بيت المولى في وقت، والمولى ليس في البيت واستخدمها أهل المولى ومنعوها من الرجوع إلى بيته، فلا نفقة لها لأن استخدام أهل المولى إياها بمنزلة استخدام المولى، وفيه تفويت البيتوتة، قال: وإذا تزوجت المكاتبة بإذن المولى، فهي كالحره فلا تحتاج إلى البيتوتة لاستحقاق النفقة لأن منافعها على ملكها لضره وريها أخص بنفسها ومنافعها بعقد الكتابة، ولهذا لم يبق للمولى، ولأن الاستخدام مكانه فكانت كالحرة فلا يحتاج في حقها إلى البيتوتة، وهذه المسألة تزيد ما ذكرنا في الحرة إذا قامت تحت عبد أو مكاتب أو مدبر،
ثم فرع على مسألة العبد فقال: إذا تزوج العبد بإذن المولى، وفرض القاضي عليه النفقة، فالنفقة تتعلق بمالية الرقبة، لأن دين النفقة ظهر في حق المولى لأنه سببه وهو النكاح كان برضا المولى، وإذا اجتمع عليه من النفقة ما يعجزه عن الأداء يباع فيه إلا أن يفديه المولى، ثم إذا اجتمع عليه النفقة مرة أخرى يباع العبد ثانياً.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وليس في شيء من ديون العبد ما يباع فيه مرة بعد مرة إلا النفقة، وهذا لأن النفقة تتجدد وجوبها بمضي الزمان، فكذلك في حكم دين حادث، ولا كذلك سائر الديون.
قال: وإن مات العبد بطل ما اجتمع عليه من النفقة لا يؤاخذ المولى بشيء لأن محل الاستيفاء قد فات، قال: وإن قتل العبد كانت النفقة في قيمته، قال الشيخ أبو الحسن القدوري رحمه الله في «شرحه» : هذا ليس بصحيح، وإنما الصحيح أن تسقط النفقة بالموت، لأن النفقة في معنى الحر على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله، والصِّلات تبطل بالموت قبل القبض، والقيمة إنما تقام مقام الرقبة في دين لا يسقط بالموت، لا في دين سقط بالموت، هذا الذي ذكرنا في العبد، أما المدبر إذا تزوج بإذن المولى، فالنفقة تتعلق بكسبه، لأن الاستيفاء من الرقبة ههنا متعذر لعدم جواز بيعه، فيتعلق بكسبه كسائر الديون، وكذلك نفقة امرأة المكاتب تتعلق بكسبه ما دام مكاتباً لتعذر الاستيفاء من الرقبة، فإذا عجز بيع فيها لإمكان الاستيفاء من الرقبة بعد العجز، فهذا الذي ذكرنا، إذا تزوج العبد أو المكاتب أو المدبر بإذن المولى.
وإذا تزوجوا بغير إذن المولى فلا نفقة عليهم ولا مهر، لأن وجوب النفقة والمهر يعتمد صحة العقد، ونكاح هؤلاء بغير إذن المولى لا يصح، فإن عتق واحد منهم جاز نكاحه حين عتق، لسقوط حق المولى، ويجب عليه المهر والنفقة في المستقبل.
(3/524)
وقال: ومعتق البعض عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة المكاتب وعندهما بمنزلة من عليه دين بناءً على أن الإعتاق عندهما لا يتجزأ وعند أبي حنيفة رحمه الله يتجزأ فكان بمنزلة المكاتب، إلا أن الرد في الرق بالعجز ههنا لا يتصور، وفي المكاتب يتصور، أما قبل العجز خالعها وأخذ (العوض) قال: وإذا تزوج الرجل أمته من عبده بوأها بيتاً أو لم يبوىء فنفقتها على المولى، لأنهما جميعاً ملك المولى، ونفقة المماليك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
قال: وإذا زوج الرجل ابنته من عبده، وطلبت النفقة كان لها النفقة على العبد لأن النفقة في معنى سائر الديون من وجه والابنة تستحق الدين على الأب، فكذلك على عبد الأب.
قال: وإذا (كان) للرجل نسوة بعضهن حرائر مسلمات، وبعضهن إماء وذميات باختلاف الدين والرق والحرية، إلا أن الحرة تستحق نفقة خادمها على ما يأتي بعدها إن شاء الله، والأمة لا لأن الحرة تستخدم الأمة، فأما الأمة خادمة في نفسها فلا تستحق نفقة الخادم.
قال: ولا نفقة في النكاح الفاسد، ولا في العدة منه لأنه لم يحصل للزوج بهذا الاحتباس منفعة من منافع النكاح وهو الوطء أو الدواعي لأنه ممنوع شرعاً، فصار بمنزلة الصغيرة لا يجامع مثلها.
قال: ولو كان النكاح صحيحاً من حيث الظاهر، ففرض القاضي لها النفقة وأخذت ذلك أشهراً، ثم ظهر فساد النكاح بأن شهد الشهود أنها أخته من الرضاعة، وفرق القاضي بينهما رجع الزوج على المرأة بما أخذت، لأنه تبين أنها أخذت بغير حق، وهذا إذا فرض القاضي لها النفقة، أما إذا أنفق الزوج عليها مسامحة من غير فرض القاضي لم يرجع عليها بشيء، كذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله في «شرح القاضي» .
وذكر في «الحاوي في الفتاوي» ، أن الرجل إذا اتهم بامرأة وظهر بها حبل فزوجت من هذا الرجل، فإن لم يقر هذا الرجل بأن هذا الحبل منه، فإن النكاح فاسد عند أبي يوسف رحمه الله فلا تستحق النفقة، وعندهما النكاح صحيح فتستحق النفقة، وذكر في موضع آخر أن على قولهما لا تستحق النفقة أيضاً، لأن النكاح وإن كان صحيحاً عندهما إلا أن الزوج ممنوع عن وطئها، فأما إذا أقر الرجل أن الحبل منه فالنكاح صحيح بالاتفاق وهو غير ممنوع عن وطئها فتستحق النفقة عند الكل.
في «فتاوى النسفي» رحمه الله في منكوحة تزوجت بزوج آخر ودخل بها الزوج الثاني وفرق بينهما حتى وجبت العدة، ففي الحالة التي تعتد لا نفقة لها لا على الزوج الأول، ولا على الزوج الثاني أما على الزوج الثاني فالنكاح الثاني فاسد، وأما على الزوج الأول فلأنها صارت ناشزة عن الأول ولا تستحق النفقة عليه.
وقال: ولا نفقة للناشزة (303ب1) ما دامت على تلك الحالة، لأنها إنما تستحق النفقة بتسليمها بنفسها إلى الزوج وتفريقها نفسها لمصالح الزوج فإذا امتنعت عن ذلك
(3/525)
ظالمة، فقد فوتت ما كانت تستحق النفقة باعتباره فلا تجب لها النفقة، وقد صح أن شريحاً رحمة الله عليه سئل أن الناشزة هل تستحق النفقة: فقال: نعم.... فقال: جوالق من تراب، بين لا نفقة لها، ثم بين الخصاف رحمه الله الناشزة فقال: الناشزة هي الخارجة عن منزله زوجها المانعة نفسها منه، لأنها إذا كانت مقيمة مع الزوج في منزله فالظاهر أن الزوج يقدر على تحصيل المقصود منها فلا يوجب ذلك بطلان نفقتها، وتستوي المرأة في حق الناشزة أن تكون النفقة مفروضة أو لم تكن لا نفقة للمرأة مفروضة كانت، أو غير مفروضة بأن الاحتباس في بيت الزوج، فإذا فات الاحتباس في بيت الزوج فات ما تأدى به النفقة فتفوت النفقة ضرورة في حق هذا المعنى المفروضة وغير المفروضة على السواء، إليه أشار محمد رحمه الله في «الجامع» ، في الباب الثاني من كتاب القضاء في مسألة ذكرها على سبيل الاستشهاد عبيد.
وكذلك لو كان وصورتها إذا قضى القاضي بالفرقة بشهادة الشهود، ثم ظهر أن الشهود عبيد، وكذلك لو كان المنزل ملكاً للمرأة والزوج يسكن معها في بيتها فمنعته من الدخول عليها لم يكن لها نفقة ما دامت على تلك الحالة، لأنها لما منعته عن الدخول عليها فقد حبست نفسها منه فصار كأنها نشزت إلى موضع آخر.
قال في «الكتاب» : إلا أن تكون سألته أن يحولها إلى منزله أو يكتري لها منزلاً آخر فيه وتقول: إني أحتاج إلى منزل، ومنعته من الدخول عليه فلها ذلك، وعليه النفقة، لأن منفعة الاحتباس ههنا، إنما فات لمعنى من جهة الزوج فلا يوجب بطلان المنفعة، ثم في كل موضع تسقط نفقة المرأة لأجل النشوز، لو تركت النشوز كان لها النفقة، لأن المسقط للنفقة هو النشوز.
فإذا تركت النشوز ارتفع المسقط فصار الحال بعد ترك النشوز كالحال قبل النشوز، وذكر في «الفتاوى» عمن أوفى مهر امرأته وهو يسكنها في أرض الغصب وامتنعت هي منه قال: لها النفقة لأنها محقة وليست بناشزة قال: وإذا بقيت المرأة مع زوجها، أو أبت أن تتحول معه إلى منزله أو حيث تريد من البلدان وقد أوفى مهرها فلا نفقة لها عليه، لأنها مبطلة في هذا المنع فكانت ناشزة، وإن كان لم يعطها مهرها وباقي المسألة بحالها فلها النفقة لأنها محقة في هذا المنع، هذا إذا لم يدخل بها، فإن دخل بها فكذلك الجواب في قول أبي حنيفة رحمه الله، وفي قولهما لا نفقة لها سواء أوفاها المهر، أم لا وهذا بناءً على أن بعدما دخل الزوج بها ليس لها أن تمنع حتى يوفيها الزوج المهر عندهما، وعند أبي حنيفة رحمه الله لها ذلك فكانت مبطلة في هذا المنع عندهما فلا نفقة لها قال الفقيه أبو القاسم الصفار رحمه الله: هذا كان في زمانهم، أما في زماننا لا يملك الزوج أن يسافر بها، وإن أوفى صداقها، لأن في زمانهم الغالب من حال الناس الصلاح، أما في زماننا فسد الناس، والمرأة إذا كانت بين عشيرتها فالزوج لا يقدر على أن يظلمها، ومتى
(3/526)
نقلها إلى بلد آخر ظلمها، فقيل له أن يخرجها من البلد إلى القرية، أو على العكس قال: ذلك ليس سفر، وإخراجها إلى بلد آخر سفر.
النوع الثاني في كسوة المرأة
«الأصل» : في ذلك قوله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (البقرة: 233) والمعنى الذي أوجب النفقة للمرأة على الزوج وهو كونها محبوسة في بيت الزوج لمنفعة تعود إلى الزوج توجب الكسوة أيضاً على الزوج إذا عرفنا هذا.
قال محمد رحمه الله في «الكتاب» : الكسوة للمرأة على المعسر في اليسار درع يهودي وملحفة كأرخص ما يكون مما يدفنها، وعلى الموسر في اليسار درع يهودي أو هروي، وملحفة وخمار إبريسم، وكساء ولها في الصيف درع سامريّ وملحفة كتان، أو خمار إبريسم فقال: أوجب لها في الستار أكثر مما أوجب في الصيف لدفع أذى الحر، وتحتاج لدفع البرد ما لا تحتاج لدفع أذى الحر، فقد ذكر محمد رحمه الله في «الأصل» : للمرأة الدرع، والخصاف ذكر القميص وهما سواء غير أن الدرع ما يلبسه النساء، وهو أن يكون مجبباً من قبل أن الصدر والقميص ما يكون مجبباً من قبل الكتف فتوسع الخصاف وأجاز ذلك للنساء، وذكر الملحفة وتكلموا في تفسيرها قال بعضهم: غطاء الليل يلبس في الليل، وقال بعضهم: التي تلبس المرأة عند الخروج.
وقال الخصاف رحمه الله في «كتابه» : الملحفة تشبه الرداء، غير أن الملحفة أعرض من الرداء فتكون أستر للمرأة ثم لم يوجب للمرأة الإزار، والخصاف أوجب الإزار لها في كسوة الشتاء لا في كسوة الصيف.
ومحمد رحمه الله لم يوجب لها الإزار أصلاً قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: إنما لم يوجب محمد رحمه الله ذلك باعتبار أن الإزار إنما يحتاج إليه للخروج، والمرأة منهية عن الخروج ومأمورة بأن تكون مهيأة لبساط الزوج، فلا يكون على الزوج أن يتخذ ما يحول بينه وبين حقه، فهذا التعليل إشارة إلى أنه لا يفرض للمرأة الإزار في ديارنا أيضاً، وقال غيره من المشايخ: هذا بناء على عرف ديارهم، فإن في عرف ديار محمد رحمه المرأة تمكث في بيت الزوج بلا سراويل، وتلبس درعاً طويلاً، وفي عرف ديار الخصاف وهو ديار عراق تمكث المرأة مع السراويل لكن في الصيف لا يمكنهن ذلك لشدة الحر، وفي الشتاء يمكنهن فهذا في عرف ديارهم، أما في عرف ديارنا يجب لها الإزار، وثياب أخر تحتاج إليها في الشتاء نحو الجبة وما أشبه ذلك، ولم يوجب للمرأة الملقب والخف لأن كل واحد منهما يحتاج إليه للخروج، والمرأة لا تحتاج إلى الخروج والبروز.
قال: ويجب لها في الشتاء لحاف، أو قطيف إن لم تكن تحتمل لحافاً، وكذلك يجب لها فراش تنام عليه، لأن النوم على الأرض ربما يؤذيها ويمرضها، وهو منهي عن إلحاق الضرر والأذى بها قال في «الكتاب» : (304أ1) يجعل لها القاضي ما ينام عليه
(3/527)
مثل الفراش أو المضربة أو المرفقة، وفي الشتاء لحاف تتغطى به، ذكر لها فراشاً على حدة ولم يكتف لها بفراش واحد، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «الفراش ثلاثة، فراش لك وفراش لأهلك والثالث للشيطان» .
ثم ذكر محمد رحمه الله في «الكتاب» من القياب فهو بناء على عاداتهم وذلك يختلف باختلاف الأمكنة في شدة الحر والبرد، وباختلاف العادات فيما يلبسه الناس في كل وقت فيجب على القاضي اعتبار الكناية بالمعروف فيما يعرض في كل وقت، ومكان النوع الثالث في فرض القاضي نفقة المرأة وكسوتها.
قال: وإذا طالبت المرأة زوجها بالنفقة وهي امرأة على حالها، وقالت أنه يصرف عليّ ويضربني فالقاضي يأمر بالنفقة عليها لأن الله تعالى أمر الزوج بالإمساك بالمعروف قال الله تعالى: {فأمسكوهن بمعروف} (الطلاق: 2) وليس من المعروف ترك التوسع في النفقة والزوج هو الذي يلي الإنفاق، إلا أن يظهر للقاضي مطلب أنه يضربها ولا ينفق عليها حينئذٍ يفرض القاضي لها نفقة عليه في كل شهر وأمره أن يعطيها لتنفق هي على نفسها نظراً لها، فإذا لم يعطها وقدمته مراراً ولم يقبل نُصح القاضي ولم ينجح فيه وعظه وحبسه القاضي لظهور مطله وظلمه وسيأتي الكلام في الجنس بعد هذا إن شاء الله تعالى.v
قال: وإذا طلبت المرأة من القاضي أن يفرض لها نفقة على الزوج، فالمسألة على وجهين: أما إذا كان الزوج حاضراً أو غائباً، فإن كان حاضراً أو كان الزوج صاحب مائدة فالقاضي لا يفرض لها النفقة وإن طلبت لأنها متعينة في طلب النفقة لأن الرجل إذا كان بهذه الصفة ينفق على من ليس عليه نفقته فلا يمنع في الإنفاق على من عليه نفقتها فلا يفرض القاضي لها النفقة إلا إذا ظهر للقاضي أنه يضربها ولا ينفق عليها فحينئذٍ يفرض لها النفقة.
وإن لم يكن الزوج صاحب مائدة فالقاضي يفرض نفقة لها كل شهر، وأمر بأن يعطيها هكذا ذكر في «الكتاب» ، وعلى قياس المسألة الأولى ينبغي أن يكون الزوج هو الذي يلي الإنفاق إذا ظهر للقاضي مطل الزوج وظلمه على ما ذكرنا فحينئذٍ يفرض.
قال: وليس في النفقة عندنا التقدير لازم، لأن المقصود من النفقة الكفاية وذلك مما يختلف فيه طباع الناس وأحوالهم، ويختلف باختلاف الأوقات أيضاً، وفي التقدير بمقدار.... بأحديهما، والذي قال في «الكتاب» : (إن) كان الزوج معسراً فرض لها القاضي من النفقة كل شهر أربعة دراهم فهذا ليس تقدير لازم لأن هذا يختلف باختلاف الأسعار في الغلاء والرخص، واختلاف المواضع، واختلاف الأوقات فكان في التقدير بالدراهم إضرار بأحدههما فلا يعتبر ذلك إلا أن محمداً رحمه الله ذكر التقدير بالدراهم بناءً على ما بينا، هذا في زمانه الذي يحق على القاضي (أما) في زمننا اعتبار الكفاية
المحيط البرهاني في الفقه النعماني
كتاب النفقات