الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله , نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له ; وأشهد أن لا إله غير الله , وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما . أما بعد , فهذه رسالة تتضمن البراهين القواطع الدالة على أن الدين الإسلامي وعلومه وأعماله وتوجيهاته جمعت كل خير ورحمة وهداية , وصلاح وإصلاح مطلق لجميع الأحوال , وأن العلوم الكونية والفنون العصرية الصحيحة النافعة داخلة في ضمن علوم الدين , وأعماله ليست منافية لها , كما زعم الجاهلون والماديون , ولا جاءت الفنون العصرية النافعة بشيء جديد , كما ظنه الجاهلون أو المتجاهلون , بل النافع منها للدين والدنيا وللجماعات والأفراد داخل في الدين , والدين قد دل عليه وأرشد الخلق إليه وإلى كل أمر نافع إلى أن تقوم الساعة ; وبيان أن الفنون العصرية - إذا لم تبن على الدين وتربط به - فضررها أكثر من نفعها , وشرها أكبر من خيرها , ولكن هذا الأصل الكبير يحتاج إلى أمرين : أحدهما معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة إجمالا وتفصيلا . والثاني معرفة بالأمور الواقعة والحقائق الصحيحة التي يعرفها ويعترف بها العقلاء المنصفون , فمتى عرف الإنسان الأمرين عرف أنه لا يشذ عن علوم الدين الإسلامي , وأعماله وفنونه شيء فيه خير وصلاح أصلا , واستدل العارف بكل من الأمرين على الآخر , وعرف أن النقص بالإخلال بهما أو بأحدهما , ومتى عرفت الأصول الكلية ردت إليها الجزئيات , ومتى تكلم متكلم بشيء من الجزئيات قبل أن يعرف الكليات حصل الغلط الفاحش وقامت الشبه التي لا تروج إلا على الجاهلين , أو يروجها المعاندون .
عبد الرحمن بن الناصر بن سعدي
معنى قوله : { والله يقول الحق } قال الله تعالى : { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [ سورة الأحزاب : الآية 4 ] فهذه الآية الكريمة صرحت بأن الله تعالى يقول الحق , وهو الصدق واليقين في أخباره , والعدل والحكمة في أوامره ونواهيه , فكل ما أخبر به فهو حق وصدق , ونافع للعباد في إصلاح عقائدهم وأخلاقهم , ودينهم ودنياهم , وكل ما أمر به فهو بر وخير إحسان ونفع وبركة ; وكل ما نهى عنه فهو شر وضرر وفساد , لا فرق في هذا بين الأمور الدينية والدنيوية . وشريعة الإسلام كلها تفصيل لهذا الأصل العظيم , الذي ذكره الله في هذه الآية وغيرها . ثم قال : { وهو يهدي السبيل } وهو الطريق الموصل إلى الحق الذي يقوله ويحكم به , فتكفل الله لعباده أنه لا بد أن يبين لهم هذا الحق النافع بالأدلة الواضحة العقلية والنقلية , كما قال في الآية الأخرى : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [ سورة فصلت : الآية 53 ] فإنه تعالى لما أخبر بتوحيده وتفرده بالكمال المطلق من جميع الوجوه , وأمر بعبادته وحده لا شريك له , وإخلاص الدين له , وإن قوله حق ووعده ووعيده حق , ورسوله وكتابه حق , أخبر أنه لا بد أن يريهم من الآيات في أنفسهم وفي الآفاق ما يتبين لهم أنه الحق وأن ما سواه باطل ; فالآيات الأفقية الكونية والآيات النفسية كلها تحقق هذه الأصول العظيمة ويعرف بها أن الله هو الحق . وقوله وكتابه ودينه حق فالآيات الأفقية مثل قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } [ سورة آل عمران : الآية 190 ] وفي قوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } [ سورة البقرة : الآية 164 ] وآيات كثيرة يخبر فيها عن أحوال الكون , وأنه آيات وأدلة على وحدانية الله وصدقه , وصدق رسله ; فالذي أوجد هذه المخلوقات العظيمة , بهذه الأوصاف البديعة , وعلى هذا النظام العجيب والخلق الكامل والإحكام والحسن , هو المتفرد بالربوبية والألهية , واسع الرحمة والحكمة , وهو الذي أحاط بكل شيء علما ; ومن كان هذا شأنه فهو الذي يجب أن يعبد وحده لا شريك له , ويشكر ويذكر لما له من عميم الإحسان وسوابغ النعم فما فيها من عظيم الخلق دال على كمال قدرته وعظمة سلطانه , وما فيها من النظام البديع الحسن والخلق الكامل دال على شمول حكمته وحمده , وما فيها من التخصيصات المتنوعة دال على نفوذ مشيئته وإرادته , وما فيها من المنافع والمصالح للعباد , التي لا يمكن إحصاؤها ولا تعداد أجناسها , فضلا عن أنواعها , فضلا عن أفرادها , دليل على سعة رحمته وعموم فضله وكرمه وجوده وإحسانه ; وكل ذلك دليل على وجوب عبادته وإخلاص العمل له , وأن الذي أوجد هذه المخلوقات العظيمة قادر على أن يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير .
وأما الآيات النفسية فإن الله قال : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ سورة الذاريات : الآية 21 ] { أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } [ سورة يس : الآية 77 ] { فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق } [ سورة الطارق : الآيتان 5 , 6 ] ونحوها من الآيات التي ينبه الله فيها الإنسان على التأمل والنظر في ابتداء خلقه , وتطوره , وكيف تنقلت به الأحوال من النطفة إلى أن صار إنسانا كاملا في بدنه وفي عقله , وكيف أحسن الله خلقه ونظمه هذا النظام العجيب فوضع فيه كل عضو يحتاج إليه في منافعه كلها , ووضع كل عضو في محله اللائق به , الذي لا يحسن ولا يليق أن يوضع إلا في محله , ثم ليتأمل في غذائه , وما أودع الله فيه من قوة الشهوة للطعام والشراب وتوابعها , وما وضع فيه من الآلات المعينة على الأكل والشرب , وما أودع فيه من الحرارة العظيمة التي تطبخ الأطعمة الغليظة والخفيفة , ثم تنفذها إلى جميع أجزاء البدن , فيأتي كل عضو وحاسة حظها ونصيبها من الغذاء , الذي لولاه لتلاشى الإنسان وهلك , وجعل الله لثفل الأغذية وما لا ينفع في الغذاء مجاريه تندفع إليها وتخرج من البدن لئلا تبقى فيه فتضره أو تهلكه . ثم لينظر الإنسان ما وضع الله فيه من العقل , الذي يتميز به عن الحيوانات كلها , وهدى الله فيه الإنسان إلى هدايات دينية ودنيوية لا يمكن عدها ولا إحصاؤها ; وكما هداه بالعقل إلى الانقياد لعلوم الرسل وأديانهم هداه به إلى تسخير المواد الكونية والمعادن والمخترعات والصناعات , التي لا تزال تتجدد كل وقت . وقد أخبر تعالى أنه سخر لنا جميع ما في السماوات والأرض , ننتفع بآياتها ونستخرج منافعها وكنوزها ونشكره على ذلك التسخير والهداية والنعم , التي لولا فضله وكرمه لم يحصل لنا منها شيء .
ومن آياته الأفقية النفسية إخباره تعالى أنه سخر للإنسان جميع ما في السماوات والأرض ومعادن الكون وعناصره , ثم إخباره بأنه أخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا , وجعل له السمع والبصر والفؤاد وآلات العلم وعلمه ما لم يكن يعلم فحمل بهذا التسخير وبهذا التعليم - من فنون العلم وفنون المخترعات الباهرة - ما هو مشاهد معلوم , ترقت به الصناعات , وتوسعت به المخترعات , وتنوعت به المنافع وتقاربت به الأقطار الشاسعة , وتخاطب به أهل المشارق والمغارب . أما يدل ذلك دلالة قاطعة على كمال قدرة الله وصدق ما أخبر به من الغيوب التي كان المكذبون ينكرونها استبعادا لها , وقياسا منهم لقدرة من يقول للشيء كن فيكون , على قدرة الآدمي الضعيف : في علمه وفي قدرته وفي أحواله كلها , فأراهم الله من آثار قدرته على يد هذا الآدمي ما دلهم على كمال قدرة خالقه ومعلمه وعلى وحدانيته وصدق رسله , وهو لا يزال يريهم آياته شيئا فشيئا في الآفاق وفي أنفسهم فانتفع بذلك الذين يريدون الحق واتباعه وقامت الحجة البالغة على المعاندين المكابرين وصار علمهم وبالا عليهم إذ تكبروا به وامتلئوا غرورا باطلا , فالله الذي خلق الإنسان وأعده وأمده بكل وسيلة يدرك بها أنواع العلوم النافعة والفنون المتنوعة الدينية والدنيوية , وربط هذا بهذا فأمر بالقيام بالدين والاستعانة بهذه الوسائل على قيام الدين والدنيا قال تعالى : { يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا } [ سورة المؤمنون : الآية 51 ] وأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون } [ سورة البقرة : الآية 172 ] وقال تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } [ سورة الأعراف : الآية 32 ] فالمؤمنون تمت عليهم النعمة في الدنيا والآخرة , واستعانوا بالطيبات وأصناف المنافع التي لا تحصى على عبادة الله وطاعته , وصار اشتغالهم بهذه المنافع التي يتوسل بها إلى إصلاح الدين والدنيا , عبادة من العبادات وقربة من القربات . وأما من سواهم من الماديين والضالين الغافلين , فإنهم عرفوا ظاهرا من الحياة الدنيا , وهم عن الآخرة هم غافلون . واشتغلوا بالدنيا عن الدين ونسوا الله فأنساهم أنفسهم وأنساهم مصالحها فتمتعوا فيها تمتع الأنعام السائمة , فخسروا الدنيا والآخرة , ألا ذلك هو الخسران المبين , فانقطعوا بالأسباب عن مسببها , وانقطعت صلتهم بالله حين قام الكبر في قلوبهم كما قال الله عنهم : { إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير } [ سورة غافر : الآية 56 ] استعذ بالله من هذا الكبر الذي حال بين الإنسان وبين سعادته : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } [ سورة غافر : الآية 83 ]
وإذا فكر العبد في قوته , طعامه وشرابه , كيف يدخل من مدخل واحد ويستقر في موضع واحد , وهو المعدة , فيقيض الله له في ذلك الموضع من الحرارة والأسباب الأخر ما ينضجه ويتميز جوهره وصافيه ونافعه , فيتفرق في جميع أجزاء البدن لتغذيتها وتنميتها وما يبقى من الثفل , جعل له مخارج يخرج منها لئلا يبقى فيضر ويقتل ; ولا يزال هذا المعمل العظيم يعمل عمله بإذن الله ويؤدي مهماته : فهل هذا من مقتضى الطبيعة والمصادفة , كما يقوله الماديون , أم هذا تقدير العزيز العليم الذي أحسن كل شيء خلقه , وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل له السمع والأبصار والأفئدة فتبارك الله أحسن الخالقين ؟ وقد نبه الله على البعث بالتفكر في أطوار الإنسان وتنقلاته فقال : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور } [ سورة الحج : الآيات 5 - 7 ] فجعل الله تنقل الإنسان في هذه الأطوار وإحياءه الأرض بعد موتها دليلا وبرهانا على هذه الأمور الخمسة التي يتميز بها المؤمنون ويثبتونها تصديقا لله ولرسله واستدلالا بهذه البراهين العقلية الحسية .
قال الله تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } [ سورة النحل : الآية 53 ] وعدد الله على العباد في كتابه أصناف النعم وأجناسها وقال : { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون } [ سورة النحل : الآية 83 ] فالنعم الظاهرة والباطنة كلها من الله الحاصلة بغير سبب منهم , والحاصلة بالأسباب التي هداهم إليها ويسرها لهم , وهو الذي أوجدها وأوجد أسبابها ووسائلها , وذلك شامل لنعم الدين ونعم الدنيا , فعلوم الكون وفنونه كلها من نعمه وتيسيره , وهو الذي علم الإنسان ما لم يعلم , وأقدره على ما لم يقدر عليه لولا إقداره , فعليه أن يشكره على ذلك كله , ومن الشكر اعترافه أنها من الله ومن تيسيره , والاستعانة بها على ما خلق له العبد .
قال الله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم { الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد } [ سورة إبراهيم : الآيتان 1 , 2 ] أخبر تعالى أنه أنزل القرآن على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في وقت تراكم فيه الجهل والظلم والظلمات , وأنواع الشرور , ليخرج الناس به من هذه الظلمات المتراكمة فيعلمهم ما لم يكونوا يعلمون , ويحرك عزائمهم ويثير هممهم وحواسهم إلى الخير , وإلى الإيمان به وبرسله , وطاعته وطاعة رسوله , فتستنير معارفهم وتتضح طريقهم ويستقيم سلوكهم , وتتم لهم بذلك الخيرات , وتندفع عنهم الشرور والمضرات , فمن تلقى هذا الكتاب الذي هو أكبر النعم بفهم وقبول وانقياد لأوامره وإرشاداته المتفرعة المصلحة للدين والدنيا , فقد استقام على الصراط المستقيم , ومن أعرض عنه أو عارضه فهو الكافر الذي فسدت أحواله , وويل للكافرين من عذاب شديد ; فإنه لم يكن كفرهم عن اشتباه وخفاء للحق أو اتباع طريق هدى , بل كفرهم صدر عن رغبة في الترف وحب الدنيا الذي صدهم عن الهدى والحق فاستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة , أولئك في ضلال بعيد . وأي ضلال أعظم من ضلال من آثر الهوى على الهدى والشقاء على السعادة والشر على الخير - وقال تعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } [ سورة ق : الآية 37 ] وذلك أن العقل وحده لا يستقل بمعرفة الله , ولا يعرف عبادته وتفاصيلها , ولا تفاصيل يوم الآخر , حتى يهتدي بنور الوحي الذي أوحاه الله إلى رسوله , ويكون له قلب يجعل الأفكار والتصورات إرادات وهمما تحث صاحبها على اختيار النافع على الضار , والخير على الشر , والهدى على الضلال , والأخلاق الجميلة على ضدها , فالقلب الحي إذا نظر في الوحي , وتأمل ما جاء به الرسل من الحق في عقائده وأخلاقه وأعماله لم يؤثر على ذلك شيئا , فإنه يعلم أنه ليس بعد الحق إلا الضلال , فالتصورات والعلوم وحدها بلا قلب يتطلع إلى الخير والحق لا تكفي وحدها , بل قد يكون ضررها كثيرا لخلوها عن الإيمان , وخلوها عن التوجيهات الصحيحة , ولتكبر أهلها بها , كما قال الله عن أمثال هؤلاء : { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } [ سورة الأحقاف : الآية 26 ] فجحدهم لآيات الله واستكبارهم عنها واستهزاؤهم - بها واحتقارهم لأهلها أوجب لهم فقد الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم وأفئدتهم , فلم يزل هذا دأبهم حتى حق عليهم العقاب , فانظر كيف كانت علومهم التي لم تبن على الإيمان وإنما هي علوم جافة منحرفة صارت سببا لمعارضتهم الرسل , وبقائهم على ما هم عليه من الكفر والتكذيب بالحق ; فنعوذ بالله من علم لا ينفع .
وقال الله تعالى : { قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ سورة طه : الآية 50 ] أي أعطى كل مخلوق خلقته اللائقة به , المناسبة لحاله , ثم بعد هذا الخلق هدى كل مخلوق لما خلق له ; وهذا يشمل أنواع الهدايات كلها : فالحيوانات غير الإنسان هدى كل صنف منه إلى ما يناسبه مما لا تتم حياته الحيوانية إلا به , من جلب المنافع الخاصة , ودفع المضار عن نفسه ; وأما الإنسان فهداه الله هذه الهداية , واختصه بهدايات أخر استكمل بها دينه ودنياه إذا استعملها كلها , وأما إذا استعملها في غير ما خلقت له فهذا قد استحب واختار العمى على الهدى . كما قال تعالى : { وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } [ سورة فصلت : الآية 17 ] وبهذه الهداية الخاصة بالإنسان سخر له جميع ما وصلت إليه قدرته من علوم الكون , وهذه الهداية تشمل الهداية المجملة والمفصلة في علوم الشرع وأعماله , وفي علوم الكون وأعماله , فعلمه العلوم الشرعية وهداه إلى معرفتها , ثم إلى العمل بها , وعلمه علوم الكون , ثم يسر له سبلها فسلكها , وكل أحد أعطاه من هذه الأمور ما هو اللائق به , وما تقتضيه حكمته التي منها إن عرف الأمور النافعة وحرص عليها وعلى اتباع الحق , واستعان الله عليها , يسرها عليه وفتح عليه منها بحسب حاله وقوته وكفاءته كما قال صلى الله عليه وسلم ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ) وهذا الحديث في الصحيح , فقوله ( احرص على ما ينفعك ) دخلت فيه الأمور الدينية والدنيوية , فمن حرص عليها واجتهد في تحصيلها وسلك الطرق الموصلة إليها واستعان الله عليها تم له ما أراد ; ومن لم يحرص على الأمور النافعة , أو لم يستعن بالله في تحصيلها , خاب وخسر . وقد أخبر الله في عدة آيات أن القرآن هدي للناس , وأنه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم , ويهدي للتي هي أقوم , فكل أمر فيه خير وصلاح ونفع فالقرآن يهدي إليه , ويرشد العباد إليه .
وقال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز } [ سورة الحديد : الآية 25 ] فأخبر تعالى أنه أرسل الرسل لهداية الخلق وأيدهم بالآيات البينات , المبينة للحقائق , الدالة على صدقهم وحقيقة ما جاءوا به ; وأنزل معهم الكتاب الذي فيه الهدى والرحمة , وأنزل معهم أيضا الميزان الذي هو العدل وما يعرف به العدل من أصول العدل وفروعه , وذلك ليقوم الناس بالقسط إذا عملوا بها في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم وسلوكهم وجميع أمورهم , فمتى عملوا بما أنزله الله من الكتاب والميزان صلحت منهم هذه الأمور واستقامت أحوالهم . وأخبر تعالى أنه أنزل الحديد , فيه بأس شديد ومنافع للناس , فخص منافعه في أمور الحرب ثم عممها في سائر الأمور ; فالحديد أنزله الله لهذه المنافع الضرورية والكمالية , الخاصة والعامة , فجميع الأشياء إلا النادر منها تحتاج إلى الحديد ; وقد ساقها الله في سياق الامتنان على العباد بها , ومقتضى ذلك الأمر باستخراج هذه المنافع بكل وسيلة , وذلك يقتضي تعلم الفنون العسكرية والحربية , وصناعة الأسلحة وتوابعها والمراكب البحرية والبرية والهوائية , وغير ذلك مما ينتفع به العباد في دينهم ودنياهم . كما قال تعالى : { وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم } [ سورة الأنفال : الآية 60 ] وقال تعالى : { وخذوا حذركم } [ سورة النساء : الآية 102 ] فهذا يتناول الأمر بإعداد المستطاع من القوة العقلية والسياسية والمادية والمعنوية , وأخذ الحذر من الأعداء بكل وسيلة وبكل طريق , فجميع الصناعات الدقيقة والجليلة والمخترعات والأسلحة والتحصنات داخلة في هذا العموم ; فهذا الدين الإسلامي يحث على الرقي الصحيح , والقوة من جميع الوجوه , عكس ما افتراه أعداؤه أنه مخدر مفتر وهم يعلمون كذبهم وافتراءهم عنه , ولكن المباهتات والمكابرات سهلت عليهم وظنوا من جهلهم أنها تروج على العقلاء , وكل عاقل يعلم كذبهم وافتراءهم , وإنما يغتر بهم الجاهلون الضالون , الذين لا يعرفون عن الإسلام لا قليلا ولا كثيرا , بل يصور لهم هؤلاء الأعداء الإسلام بصور شنيعة ليروجوا ما يقولونه من الباطل , وإلا فمن عرف الإسلام معرفة صحيحة عرف أنه لا يستقيم أمور البشر دينها ودنيويها إلا به , وأن تعاليمه الحكيمة أكبر برهان على أنه تنزيل من حكيم حميد , عالم بالغيب والشهادة , رحيم بعباده , حيث شرع لهم هذا الدين الذي قال فيه : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } [ سورة آل عمران : الآية 164 ] وقال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } [ سورة المائدة : الآية 3 ] وقال تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } [ سورة آل عمران : الآية 19 ] وقال : { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه } [ سورة آل عمران : الآية 85 ] وقال تعالى : { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } [ سورة المائدة : الآية 50 ] وقال في وصف النبي محمد صلى الله عليه وسلم ووصف ما جاء به من الدين : { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون } [ سورة الأعراف : الآية 157 ] فأخبر أنه لم يبق معروف عقلا وشرعا إلا أمر به , ولا منكر إلا نهى عنه , ولا طيب نافع إلا أحله ولا خبيث ضار إلا نهى عنه , وأنه مع ذلك سهل ميسر قد وضعت عن أهله الآصار والأغلال وأنواع المشاق , وأن من التزمه وآمن به واتبع النور الذي أنزل معه فهو المفلح في دينه ودنياه . والفلاح هو الفوز بكل مطلوب مرغوب والنجاة من كل هلاك ومرهوب , لأنه يهدي للتي هي أقوم من الأخلاق والأعمال وصالح الأحوال . وقال تعالى : { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } [ سورة الإسراء : الآية 81 ] فالحق هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في أصول الدين وفروعه , وفي أمور الدين والدنيا ; والباطل ما خالفه وناقضه ; فكل ما خالف الدين الإسلامي فهو باطل لا يثبت للحق عند المقابلة , وإنما يروج إذا غاب الحق عنه عند الجهال بدين الإسلام , وإلا فمتى عرف الدين الإسلامي على ما هو عليه فإن أهل العقول الوافية والألباب الصافية لا يبتغون به بدلا ولا يختارون عليه سواه , لأنه يدعو إلى سعادة الدنيا والدين , فيجمع بين السعادتين . فهؤلاء يقولون : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وهم الذين وصفهم الله بقوله : { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ سورة النحل : الآية 97 ] { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنه م في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا } [ سورة النور : الآية 55 ] وهم حين قاموا بالإيمان والعمل الصالح الذي يشمل شرائع الدين كلها أنجز لهم ما وعدهم من الاستخلاف في الأرض , والتمكين والعز والكمال , وحين قصروا في ذلك عوقبوا بتسلط الأعداء , فكان هذا العز إذ قاموا بدينهم وهذا الذل الذي أصابهم حين ضيعوه أكبر برهان على أن الدين هو الحق , وأنه مدار السعادة والفوز في الدنيا والآخرة , وأن الشقاء والخذلان بتضييعه , وأما ما حصل لأعدائه من عز موقت على وجه الاستدراج فكما قال الله عنهم : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } [ سورة آل عمران : الآيتان 196 , 197 ] { فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين } [ سورة الأنعام : الآيتان 44 , 45 ]
تأليف العلامة الشيخ
عبد الرحمن بن ناصر السعدي