.
[size=18]
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحمد بن قاسم داعية الأمس وواعظ اليوم
آهٍ...آه...، ماذا أقول عن قمةٍ سامقةٍ جمعت مصطلحات الأخلاق والسلوك، وحازت مفردات الطاعة والعبادة!! وكيف يمكن لعاجزٍ مثلي أن يقف عند تلك الشخصية العظيمة، فيصف ملامحها، ويحدد صفاتها؟!! كيف يمكن لمتثاقلٍ في الطاعة أن يصف ناشطاً فيها، وكيف لمتكاسلٍ في الدعوة أن يمدح مجدِّاً فيها، وكيف لمقصرٍ في تحصيل العلوم أن يثني على مشمرٍ فيها، وكيف يمكن لممسكٍ عن الصدقة أن يتطفل على مائدتها؟!! ولكنها الأقدار التي أبت إلا أن يتحدث الأقزام على مائدة العظام!! ولهذا اسمحوا لي أن أتطفل ساعة على مائدة سيرته العطرة.
لقد ولد- رحمه الله - في بلدة البير، سنة 1349هـ، كما جاء مثبتاً في شهادته العلمية التي منحه إياها شيخه محمد بن إبراهيم - رحمه الله -، وجاء في بطاقة الأحوال أنه ولد سنة 1351هـ.
كان- رحمه الله - منذ نعومة أظفاره، وهو متعلق بكتاب الله، ومنذ كان شاباً يافعاً وهو ناشئ في عبادة الله، ولم يزل قلبه معلقاً بالمساجد حتى وهو على سرير المرض إلى أن توفاه الله، ومذ عرفته وهو يتصدق بالصدقة فيخفيها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وكم مرةً ذكر الله خالياً ففاضت عيناه!! وليس هذا بعجيب على من عاش في كنف الشيخ الزاهد عبد الرحمن بن قاسم- رحمه الله - ولا بغريب على من تربى في بيته، وشبَّ على مائدته.
تربى ونشأ في بيت عُرِف بالعلم، حيث تربى في كنف والده الشيخ عبد الرحمن بن قاسم- رحمه الله - الذي جمع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله - وألف كتباً كثيرة، كان لها صدى واسعاً بين طلاب العلم، وتلقى العلم الشرعي على عدد من أصحاب الفضيلة، ومنهم، والده الشيخ/ عبد الرحمن بن قاسم، حيث قرأ عليه في الفقه (سنة1373ه فقط) مع عدد من زملائه: ومنهم الشيخ عبد الرحمن بن فريان، والشيخ عبد الله بن جبرين، والشيخ فهد بن حمين، والشيخ إبراهيم بن خنيزان، وأخوه العم الشيخ محمد بن قاسم، والأستاذ محمد بالبيد، وغيرهم...
ومن مشايخه: الشيخ/ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، حيث قرأ عليه متن الرحبية، والأجرومية...، وغيرهما.
ومن مشايخه: الشيخ/ محمد بن إبراهيم آل الشـيخ. وهو أكثر من لازمـه، وقـرأ عليـه، وكـان لـه حـظـوة عنده، حتى إنه يعده كواحدٍ من أبنائه، ولهذا قـرَّبه، وأدناه، وجعله أميناً لمكتبته، وكان يرافقه في كثير من رحلاته وأسفاره، وكانت فرصة سانحة للنهل من علم هذا الإمام، والقراءة عليه، وقد قرأ عليه الوالد الروض المربـع، وأصول الأحكام لوالده، وكذا حاشية الروض- قبل أن تطـبع- وألفية ابن مالك، وشرح الطحاوية، وغيرها كثير..، وكان الوالد - رحمه الله - يذهب إلى الشيخ محمد بن إبراهيم بعد العشاء الآخر؛ ليقرأ عليه عدداً من الكتب، تحضيراً لدروس الغد...، كما كان يقرأ عليه ليلة الجمعة من خطب الشيخ محمد بن عبد الوهاب؛ تحضيراً لخطبة الجمعة التي يخطبها الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -.
ومن مشايخه أيضاً: الشيخ/ محمد الأمين الشنقيطي، حيث قرأ عليه في أصول الفقه..، والشيخ/ إسماعيل الأنصاري، وقد قرأ عليه في مصطلح الحديث..
وبعد أن توفي الشيخ محمد بن إبراهيم عيّن أميناً لمكتبة كلية الشريعة بالرياض، إلى أن تقاعد سنة 1406ه تقريباً، ثم اشتغل بعد ذلك في التأليف، فألَّف في الحديث كتاب "المنتخب من أدلة الشريعة" في مجلد، وفي الفقه كتاب "العمدة في فقه الشريعة" في مجلد، وفي التفسير كتاب"تفسير القرآن بالقرآن والسنة والآثار وبالأسلوب الحديث" في ستة مجلدات، وفي الوعظ والإرشاد كتاب"توجيهات ورسائل مهمة" في غلاف، ومجموعة خطب اشتغل عليها قبل وفاته، ولم تطبع بعد.
وقد اهتم- رحمه الله - بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان تذكير الناس، وتعليمهم، صبوحه، وغبوقه، ولذا بقي أكثر من عشرين عاماً، يخرج يوم الجمعة إلى المحافظات والقرى؛ ليخطب بالناس، ويذكرهم، ويفتي عوامهم...، فيخرج من منزله صباحا أو ضحى، ولا يعود إلا في المساء، وكان يقول: هم أحوج للتعليم من أهل المدن...، ووقت العزاء حضر، واتصل، من أصحاب المحافظات والقرى، عدد كبير، كلهم يعزي في وفاته، ويذكر زياراته المتكررة لهم، سواء من الأحساء، أو من الأفلاج، أو من جلاجل، أو من سدوس... الخ..
وكان- رحمه الله - من حرصه على دعوة الناس، يخـرج من مـنزله بعد أذان الفجـر مباشرة، ليوقـظ أهـل الحي لأداء الصلاة في المسجد، وذلك عبر مكبر الصوت الذي يمسكه بيده، فيدعوهم إلى الصلاة، متنقلاً بين الأزقة والسكك، وطالما اعترض عليه بعض الناس، فما فتَّ ذلك من عضده، وما أوهن من عزيمته، إذ استمر على ذلك أكثر من ثلاثين عاما... !! ومن عباراته التي طالما كان يرددها لإيقاظ الناس للصلاة:
"الصلاة... أدركوا الصلاة... صلوا في المسجد.. صلوا مع المسلمين.. صلوا هداكم الله.. "
ثم ينتقل إلى الطرف الثاني من الزقاق، فيقول: "أدركوا الصلاة... لا تشبهوا بالمنافقين... أيقظوا أولادكم وخدمكم للصلاة.. فإنكم مسئولون عنهم يوم القيامة.. ".
ثم ينتقل للسكة الأخرى، وهو يلتفت بالمكبِّر يميناً وشمالا، فيقول: "الصلاة.. الصلاة... وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين... الصلاة... أدركوا الصلاة... "
ثم ينتقل للطرف الثاني من السكة، فيقول: "الصلاة.. الصلاة... اتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة... أدركوا الصلاة.. "
ثم ينتقل إلى الحي من الجهة الأخرى، ويقول: "الصلاة.. أدركوا الصلاة... فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا.. "
يقول ذلك بصوت رخيم جميل، لا يملك من يسمعه إلا أن يرعي له سمعه حتى يفرغ من النداء، وأحياناً لا يملك السامع إلا أن تذرف عيناه بالدمع؛ لتسلل الخشوع إلى النفس ضرورةً؛ لعذوبة صوته، وخشوع تلاوته، ثم إذا بقي على إقامة صلاة الفجر خمس دقائق اتجه إلى المسجد، فأدى سنة الفجر، ثم أقام الصلاة...، يفعل ذلك أربعة أيام في الأسبوع أو خمسة..، صيفاً، وشتاءً، ويحتج لفعله هذا بفعل علي رضي الله عنه، حين كان يخرج، وينادي: الصلاة.. الصلاة..، وقد قتل رضي الله عنه، وهو ينادي لصلاة الفجر...، فكان الوالد يحتج بفعل هذا الخليفة الراشد، وهو اجتهاد منه - رحمه الله -، وقد كان يفرح بهذا النداء عدد من جيران الحي في العليا، ولم يزل جيران الحي في الجرادية والشميسي يذكرون ذلك قبل أكثر من ثلاثين عاما، ويدعون له كلما ذكروه، وهذا الجهد المضني، وإن فرح به البعض، فقد شرق به آخرون... ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك.. .
وكان له- رحمه الله - عناية كبيرة بالنفقة في سبيل الله، وسد حاجة المعوزين، والفقراء والمساكين، وغيرهم من أهل الحاجة، وربـما قطع مئـات الكيلـومترات بحثـاً عنـهم في المحافـظات والقرى...، وكان من النماذج العجيبة في بذل المال، وإنفاقه في سبيل الله، حتى يعود بالذاكرة إلى الرعيل الأول، ولم يكن- رحمه الله - يرد سائلا، بل كان الفقير يطرق بابه، فيعطيه من المال ما قسمه الله له، ثم يطرق الباب، فيعطيه أخرى، وأحياناً يصرُّ الفقير على طلب المزيد من المال، فيدخل المنزل قسراً، ويلحف في المسألة، حتى ينال من المال ما سأل، وربما طلب ثياباً..، فأعطاه من ثيابه..، حتى ربما لم يبق من ثيابه إلا ثوبين أو ثلاثة؛ ومرة دخل البيت وهو حاسر الرأس وإذا بسائل خلف الباب قد سأله كوفية (شماغًا) فنزعها من رأسه وأعطاها إياه إرضاءً له، وتقللا من الدنيا، وزهداً فيها...، وله من المواقف العجيبة ما يقف أمامها السامع مندهشاً، أو ربما مكذبا!! وهل تصدقون أيها القراء الكرام: أنه كان في بيته، يضيِّـف الفقراء- بنسائهم أحياناً- لأيامٍ عدة، حتى تنقضي الحاجة، وكم كانت ملاحق البيت فترة من الزمن ملاذاً لعدد من الإخوة القادمين من المغرب، أو الجزائر، أو موريتانيا... الخ، ممن أحوجهم العوز، وقلة ذات اليد..
وكان له - رحمه الله - اهتمام بالعبادة، ولاسيما قيام الليل، وقراءة القرآن، فكان يقوم من الليل منذ كان عمره (ثمانية عشر عاماً) لمدة ساعتين يومياً، حتى أنهكه المرض، ثم جعل يقسم صلاة الليل قبل النوم وبعده، ونادراً جداً ما كان يفوته قيام الليل، وكان إذا غلبه النعاس آخر الليل اغتسل؛ ليطرد عنه النوم، أو بلل طاقيته بالماء، ووضعها على رأسه وهو يصلي، وربما كرر ذلك مرات عدة في الليلة الواحدة!!
وكان - رحمه الله - يختم كل سبعة أيام، وفي الشهور الأخيرة من حياته كان يخـــــتم كل ثلاثة أيام، ولم يكن لسانه يفتر من ذكر الله.
ومن أبرز صفاته، وأخصها، أنه كان طويل الصــــــمت، تحسب كلماته في اليوم، وتعد عداً، حتى ربما أحصاها العاد في اليوم والليلة، وأقدِّر متوسط كلماته خلال أربع وعشرين ساعة بما لا يزيد على ثلاثين أو أربعين كلمة تقريبا، وأحياناً أقل من ذلك!! وإذا تكلم فهو فيما يرضي الله - تعالى -، وأحياناً يمازح مجالسيه، ويحاول إدخال السرور في نفوسهم.
وكان له اهتمام خاص بقضايا المسلمين، ولاسيما في فلسطين والعراق وأفغانستان..، وكان إذا جاءه الضيف، وعنده خبر عن المسلمين في مكان ما، تلهَّف لذلك، وأرعى له سمعه، وأخذ يطرح عليه الأسئلة تلو الأسئلة عن أخبارهم، وإذا جاءه عنهم خبر سار تهلَّل لذلك، وظهر ذلك في أسارير وجهه طيلة اليوم، وأخذ يبشِّر بذلك من يقدم عليه، فيقول مثلا للضيف: اليوم فكوا الحصار عن غزة والحمد لله، أو بالأمس المقاومة العراقية قتلت سبعة من الجنود المحتلين، أو الداعية الفلاني دخل على يديه في الإسلام كذا ألف في أفريقيا، وهكذا، فقد كان غيوراً على قضايا المسلمين، يشعر بمآسيهم، ويتألم لآلامهم، ويحزن لأتراحهم، ويقدم لهم ما يقدر عليه، فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته.
ومن صفاته الطيبة، اهتمامه بصلة الرحم، بل ويهتم بصلة أهل الخير عموماً من الأصحاب، والجيران، ونحوهم، لا يخص غنياً عن فقير، ولا يؤثر كبيراً عن صغير، وكان يتعاهد بالزيارة حتى جيرانه في حيه القديم الذي انتقل منه، بل كان يتعاهد بالزيارة من يحبهم في الله في المحافظات والقرى والمدن البعيدة، وقديماً كان يسافر بسيارته من الرياض إلى أبها- مثلا- ليزور اثنين ممن تربطه بهم المحبة في الله، ثم يغادر أبها في نفس اليوم، واستمر على ذلك فترة طويلة من الزمن حتى تقدم به السن، وأذكر أنه وقع له حادث قبل أكثر من خمس وعشرين عاما، وهو في طريقه من الطائف إلى أبها، وكان الباعث على ذلك السفر؛ تلبية لدعوة وليمة عرس لأخٍ كان يحبه في الله، وقد أشرف على الموت بسبب ذلك الحادث، ثم بقي طريحاً على الفراش أياماً عدة...، وبعد أن شفي من مرضه لم ينقطع عن قطع هذه المسافات لغرض الزيارة... !
ومن عجائب ما وقع له إبان فترة المرض هذه، أنه سمع صوتا آخر الليل (وقت أداءه لصلاة الليل عادة) يقول له: قم صلِّ، فقال: كيف أصلي وأنا على هذا الحال، وكان الحادث قد أضرَّ بفخذه ضرراً بيّناً، فأحس بشيء يمسح على فخذه، ثم بدأ يتعافى بشكلٍ متسارع!! واستأنف بعد ذلك صلاة الليل...، وقد حدَّث بهذه القصة، وقت حدوثها، ثم نفاها بعد زمن، ولا ندري أهو بسبب رغبته في إخفاء مثل هذه الكرامة، أم بسبب نسيانه لها، وكان- رحمه الله - كثير النسيان.
ومن أعظم ما كان يتسم به- رحمه الله - أنه كان سليم الصدر، طيب القلب، لا يكذِّب أحداً، مهما كان، ومهما أوغل في الكذب، لأنه لم يكن للكذب طريق إلى نفسه، ولهذا يمكن لجليسه أن يكشف عن شخصيته، وعما يدور في خلده في جلسة واحدة، وقد استغل ذلك بعض ضعاف النفوس، فلا أحصي عدد من تزيا بعمامة، وادعى أنه داعية قومه، ثم تبين أنه داعية هواه، ولا عدد من جاء يتصنع بطول لحيته وبقصرِ ثوبه، وأنه التقي بن الخفي...، ثم ظهر أنه الدعي بن الدعي، وهكذا في سلسلة طويلة...، والله - تعالى -يتولى السرائر..
ومن صفاته العجيبة التي يلمسها كل من خالطه، أنه لم يكن يحفل بالحديث عن أمور الدنيا، بل نادراً ما كان يتحدث فيها، وإن تحدث، أو اختلف مع أحد في أمر من أمورها، فهو من رغبته في تحصيل الأسباب التي تهيء له أسباب النفقة والبذل والعطاء، وأذكر أنه ورث مبلغ مليون وستمائة ألف ريال، فتبرع بنصف هذا المال بعد أيام قليلة من قبضه!!
توف- يرحمه الله - يوم الخميس ليلة الجمعة، بعد مغيب الشمس بدقيقة واحدة، في تمام الساعة السادسة وسبع وأربعين دقيقة، وذلك بتاريخ 7/7/1429ه، وكان حينها في العناية المركزة بمركز الأمير سلطان لأمراض وجراحة القلب، إثر مرض ألـمَّ به منذ سنة 1420ه، حيث كان يشتكي من ضعف عضلة القلب منذ ذلك الحين، مما كان سبباً في اجتماع السوائل في جسمه مرة بعد مرة، وكان العلاج الذي يتناوله له أثر بعيد المدى في قصور الكلى، ولابد له من تناوله، وقد دخل المستشفى قبل وفاته بأسبوع إثر هبوط مفاجئ في الضغط، وكان من أسبابه زيادة السيولة في الدم، كما حصل لديه قصور في إحدى الرئتين بسبب غياب جزئي في الوعي، وقبل ذلك وبعده قدر الله النافذ، وكان أمر الله قدراً مقدورا.
هذه إلماحة سريعة عن سيرة والد- يرحمه الله - عن سيرة هذا العَلَم، والتي أعادتني إلى الوراء قليلاً، إلى حيث التهجد والطاعة، إلى حيث التواضع والانكسار، إلى حيث الصمت والهيبة، إلى حيث الهمة والغيرة، إلى حيث الــ... آه!! إلى حيث من لو بقيت لأحسب محاسنه، وأعدد محامده لغربت علي شمس اليوم، وأشرقت علي شمس الغد دون جدوى، ولذا أكتفي من القلادة بما أحاط بالعنق، وأسطر هذه السيرة العطرة بهذه اللمسات العجلى، عسى أن يكون داعيةُ الأمس واعظَ اليوم، ومستنهضاً بسيرته العزائم، ومحفزاً الهمم، فاللهم ارحمه، وأسكنه الفردوس الأعلى مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، واجعل ما كتبته في سبيل مرضاته - سبحانه -، والزلفى لديه، والله - تعالى -أرحم بعباده، وهو الغفور الرحيم، والجواد الكريم
.
:للل: :للل: :للل: :للل: islamtoday.net
.